حتى نلتقي - بائع السجق
بقلم: يوسف أبو جعفر (أبو الطيب) | 24 أكتوبر 2025
تقول الراوية إنَّ بائع سجقٍ على قارعة الطريق في إحدى المدن الأمريكية، قام بنشر لافتاتٍ على الطريق تشير إلى موقعه، مبينًا للجميع أن لديه سجقًا بطعمٍ لذيذٍ وطيبٍ وسعرٍ جيدٍ مناسب. كل من زار الموقع اشترى، وأصبح مكانًا يقصده الكثيرون.
هكذا قام بشراء كانونٍ جديد، وزيادة كمية السجق والنقانق التي يشويها لزبائنه. ومن الأموال التي كان يجنيها، أنفق على أسرته وولده الذي كان يدرس في إحدى الكليات خارج المدينة.
كان نشيطًا للغاية، محبًّا لعمله، لم يكن يتابع أحداث العالم؛ فعالمه كان بين عمله وبيته ومنطقته التي يعيش فيها. لم يكن على دراية بما يحدث في العالم.
وفي يومٍ عاد الابن من الدراسة، وسمع أباه يطلب كمية أكبر من اللحوم، فاستغرب الابن وأشار إلى أبيه قائلًا:
«ألا تعلم يا أبتِ أن الركود الاقتصادي بدأ يضرب العالم بعد الحرب؟ الحكومة تفصل الموظفين، والمصانع تتوقف، وأوروبا في حالةٍ صعبة»، وأضاف الابن الكثير من المعلومات.
شعر الأب بالقلق، فابنه طالب جامعة يعرف ويقرأ ويتابع أحداث العالم، فلا بد أنه على حق. فبدل الاستمرار في العمل، اقتنع بإنزال اللافتات التي تشير إلى مكان الشواء.
في ذلك اليوم قلَّ عدد الزبائن، وهكذا، ما إن جاءت نهاية الأسبوع حتى قال الأب: «نعم، هناك ركود اقتصادي كبير.»
استحضرتُ هذه القصة حتى ننظر جيدًا: من منا بائع السجق، ومن منا الابن الذي يعتقد أنه يعلم كل شيء؟ وكيف ننظر إلى عالمنا في مجتمعاتنا المحلية؟
وأنا أصر هنا على قضية التفرقة بين المجتمعات، معطيًا حيزًا كبيرًا لذلك حتى لا نحصر الموضوع في مجتمعٍ واحدٍ كبير.
عندما اقتنع الأب بكلام الابن، قرر أن يحطم إعلامه الذي كان السبب في رغد حياته، وكانت النبوءة التي حققت نفسها؛ جاء بالركود الاقتصادي على نفسه.
كم منَّا الابنُ الذي، في الغالب، لا يدرك معنى كلماته التي يطلقها دون إدراك، وهو الذي يُفترض فيه الفحص والتدقيق والفهم والتعمق، ثم يقرر أن يتبوأ مركز النبي أو العالِم ليطرح قضايا إخبارية معلوماتية كأنها وقائع!
لقد قام بقطع أغصان الشجرة، إن لم يكُ ساقها.
هكذا نحن، في مجتمعاتنا الصغيرة، نعيش الأحداث الجميلة والأشياء الرائعة، فيأبى أحدهم إلا أن يطلَّ علينا نذيرَ شؤمٍ وسوء، كأن الوعي والفهم والإدراك اختُصَّ به دون غيره، لينزل علينا فقط حمم نبوءاته القاتمة التي ستصبح بعد قليلٍ قاتلة.
إنَّ «أنبياء الغضب» يسكنون كل زوايا المجتمع، ولكنهم لا يستطيعون الحديث إلا إذا سمحنا لهم بذلك، إلا إذا أعطيناهم منصةً لنشر تفاهاتهم، ليتوقف بائع السجق عن عمله، ولتصبح البطالة حقيقة.
والبطالة هنا استعارةٌ عن كل شيءٍ جميلٍ في مجتمعنا.
فعندما يتخرج كل عامٍ في النقب قرابة 80–100 طبيب من قرى ومدنٍ تعداد سكانها يرزح تحت أصناف التهميش كافة، فإن آباء هؤلاء باعةُ سجقٍ لم يهتموا بأنبياء الغضب.
وهكذا يمكننا الاستمرار في المهن المساندة للطب، من عالم التمريض إلى الأشعة، نحو القانون والمحاماة، وطلاب العلوم والتكنولوجيا والهندسة وغيرها الكثير.
حتى لو كان عددهم محدودًا، فالبدايات دائمًا صعبة.
فقبل قليلٍ فقط، كان عدد الأطباء لا يتعدى عدد أصابع الكف الواحدة.
وحتى نلتقي - في مجتمعاتنا تعرفون جيدًا أشخاصًا همهم الأول أن يكون كل ما فينا قاتمًا أسودَ، متسلقون منافقون، هؤلاء احذروهم، فهم شرٌّ لجهلهم في كثيرٍ من الأمور، لكنهم يعتبرون أنفسهم أهلَ اختصاص.
ابحثوا عن إيمانكم الداخلي بأن الغد سيكون أفضل، وأن الشمس ستشرق، وما غيوم الصباح إلا لحظاتٌ وترحل مع نسيم الصباح الطيب، أو سترتفع الشمس وتسقط عتمة الغيمة مطرًا يسقي الأرض.