هل أصبحنا شركاء في الجريمة؟ مجتمع يشيع قتلاه ويبرر صمته
بقلم: كايد أبو لطيّف | 11 أكتوبر 2025
كل يوم وربع جريمة قتل. كل ضحية كانت شخصًا بيننا تتحرك وتحلم وتخطط للمستقبل، لكنها لم تصل إليه. ليس في زلزال ولا في حرب ولا في كارثة طبيعية، بل في مجتمع يقتل أبناءه بيديه. نحن لا نعيش في ساحة حرب، ومع ذلك، الجثث تتكدس، والدماء تسيل، والقتلة يتجولون بيننا، وكأنهم يملكون حصانة غير مكتوبة، تجعلهم فوق القانون وفوق المحاسبة. لا شيء يتغير سوى الأسماء.
في أقل من شهرين، قُتل 39 شخصًا في المجتمع العربي. حياة أُطفئت بوحشية، وعائلات دُمّرت، وأطفال تُركوا بلا آباء، وأمهات غرقن في الحداد الأبدي. ومع ذلك، لا نرى حراك مجتمعي بحجم الجريمة. لا نرى احتجاجًا عامًا يوقف الحياة حتى تتوقف المجازر. ما نراه هو خيام عزاء مزدحمة، كلمات مواساة مستهلكة، وطقوس حزن أصبحت جزءًا من روتيننا اليومي، كما لو أن القتل قدرٌ لا مفر منه.
كلما وقعت جريمة جديدة، نهرع إلى أقرب تبرير. الشرطة مقصّرة، الحكومة متواطئة، الدولة لا تريدنا أن نعيش بأمان. ماذا عنّا؟ ماذا عن دورنا في هذه الفوضى القاتلة؟ ماذا عن ثقافة الصمت التي تحيط بنا، والتي تحوّلنا إلى شهود صامتين على جرائم نعرف مرتكبيها، لكننا لا نجرؤ على تسميتهم؟
نحن لا نفتقر إلى القوة، ولا إلى القدرة على التغيير. لدينا طاقات اجتماعية، نملك تأثيرًا سياسيًا، ونستطيع ممارسة الضغط، لكننا نختار عدم الفعل. لدينا عشرات المبادرات والمجموعات والشخصيات المؤثرة، لكننا لا نحرك ساكنًا أمام شبكة العنف التي تبتلع أبناءنا. بدلاً من المواجهة، نلجأ إلى أسهل الطرق. نلقي اللوم على الدولة، ونغسل أيدينا من المسؤولية، بينما نترك المجرمين يفرضون سلطتهم على حياتنا.
لم تعد الجريمة فعل فردي، بل أصبحت نظامًا متكاملاً يحكم حياتنا من خلف الستار. هناك من يموّل، هناك من يسلّح، هناك من يبرر، وهناك من يصمت. هذا التحالف القاتل بين السلاح غير القانوني، والاقتصاد الأسود، والقيم المغلوطة، جعل العنف قانونًا غير مكتوب، والجريمة أسلوب حياة.
حين يصبح حمل السلاح مسألة "كرامة"، يتحول أي خلاف صغير إلى مجزرة. حين تسيطر العائلات بدل القانون، يصبح القتل "حلاً" مشروعًا للنزاعات. حين تتغلغل الجريمة المنظمة في الأسواق، يصبح رفض دفع الإتاوة سببًا للاغتيال. حين يتحول العنف ضد النساء إلى "تأديب" و"شرف"، يصبح القتل جريمة لا يهتز لها ضمير المجتمع.
الأخطر من ذلك كله، هو صمتنا الجماعي. نعرف القاتل، نعرف المجرم، نعرف تجار السلاح، نعرف من يحرّض ومن يهدّد ومن يبتز، ومع ذلك، لا نفعل شيئًا. نتظاهر بأننا لا نرى، ونعيش يومنا وكأن دماء أمس لم تسفك، وكأننا لا نعلم أن دماء الغد في الطريق. نحن جزء من هذه الجريمة، ولو بالصمت.
ما الذي سنفعله غير الوقوف أمام خيام العزاء؟ ما الذي سنقوله غير "الله يرحمه"؟ كم من جنازة سنحضرها قبل أن ندرك أننا قد نكون التاليين؟ المطلوب ليس مواساةً أخرى، بل مواجهة التي تعني رفض الصمت، أن نواجه الحقيقة مهما كانت قاسية، أن نكسر هذه الدائرة الجهنمية التي تحوّلنا إلى مجتمع يشيّع قتلاه ويبرر صمته.
نحتاج إلى مواجهة شجاعة، تبدأ من داخل البيوت، في الأحياء، في المدارس، في المساجد، في كل مكان. نحتاج إلى رفض واضح لحمل السلاح، إلى قطيعة اجتماعية مع القتلة، إلى موقف جماعي يحاصر الجريمة ويجعلها وصمة عار، لا مسألة "خلافات شخصية" كما يحاول البعض تسويقها.
كلما وقفنا في جنازة، علينا أن نسأل أنفسنا هل فعلنا شيئًا لنمنع الجريمة القادمة؟ إذا كان الجواب لا، نحن لسنا مجرد متفرجين، بل شركاء في الجريمة، بصمتنا.