بيت الشعب في النقب
بقلم: كايد أبو لطيّف | 5 أكتوبر 2025
في المساء الذي انطفأت فيه حياة الشاب الخلوق آدم إبراهيم رميلي العبرة، انكسر في النقب ضوء كان ينير للأمل طريقا وسط العتمة. كانت الحادثة جرسا داخليا يدق في ضمير كل واحد منا وينادينا أن نفيق من سبات طويل، ونعيد النظر في معنى الحياة بيننا ومعنى الجيرة الحسنة، وفي جوهر الإنسانية التي توشحنا بها يوم كنا أبناء صحراء تعرف الصبر وتقدس الكلمة.
ما حدث مرآة قاسية لما آل إليه حال مجتمع تسرب من بين يديه الإحساس بالمسؤولية حتى أصبح الغضب أسرع من الحكمة والسلاح أقرب من اليد الممدودة للصلح. كانت الصحراء في يوم من الأيام تعلم أبناءها أن الرجولة موقف لا إطلاق نار. والكرامة تصان بالكلمة الطيبة لا بالتحدي الأهوج. واليوم عندما يختلط صوت الرصاص بنداء الأمهات ندرك كم ابتعدنا عن جذرنا الأصيل.
موت آدم لا يحزن عائلته وحدها إنه يحزن المدينة كلها، لأن موت الشباب هو خسارة المستقبل. ويفقدنا ما تبقى من الحلم ويذكرنا بأننا إن لم ننهض الآن سنفيق ذات يوم على أنقاض مجتمع لم يعد يعرف نفسه. العنف مهما كانت دوافعه لا يصنع كرامة هو يذبحها على مرأى الجميع.
لقد علمنا الأجداد أن "الدم لا يغسل بالدم" ومن يطفئ النار هو من يحسن حمل اسمه في التاريخ. كانوا يفرقون بين الغضب والعدالة والفزعة والشجاعة والانتقام والكرامة. أما الآن حين تضعف الحكمة وتعلو الفوضى، يصبح الصمت جريمة. كيف نرضى أن يقال عن صحراء النقب، مهد الكرامة انها أصبحت ساحة للدم بدل أن تكون بيتا للشعب؟
نحن في حاجة إلى بيت يحتضن الناس لا يصنفهم، بيت يعيد الاعتبار إلى فكرة الجماعة وإلى ذاك الخيط الرفيع الذي كان يربط بين الشاب والشيخ الذي يربط الأسرة، والمجتمع، والحلم والفعل. بيت يعيد إلينا الإحساس بأن الانتماء مسؤولية. حين يضيع الشعور بالمسؤولية يضيع الأمان ولو كان على مرمى البصر.
الشباب ليسوا الخطر، هم فرصة الحياة الأخيرة إن صدقنا في احتضانهم. علينا أن نصغي إليهم لا لنعظهم، لنتعلم من خوفهم وصراخهم وحيرتهم. وإقامة "مجلس شبابي في النقب" يعبّر عن رؤيتهم ويشركهم في صنع القرار هو واجب أخلاقي ومن دونهم لن تكون هناك نهضة ولن يكون هناك بيت للشعب بالمعنى الحقيقي للكلمة.
العنف الذي نعيشه ليس وليد فراغ، هو نتيجة سنوات من التهميش وتغييب العدالة الاجتماعية إضافة الى سياسات تبقي الناس على هامش الحياة. ومع ذلك فإن مواجهة الظلم لا تكون بتكراره إنما بتجاوزه. المجتمع الذي يختار طريق الإصلاح يعلن أنه أقوى من الخوف وأرقى من الكراهية.
نريد أن نحيا في جنوب يعيد إلى الصحراء معناها الأول في سعة القلب قبل سعة الأرض. في نقب يعلم أبناءه أن الشهامة ليست في الرد، ولكن في الاحتواء. في جنوب يتوحد فيه الناس حول فكرة الحياة لا الموت. لنفتح الأبواب أمام النور ولنؤمن أن البناء يبدأ بكلمة صادقة ويد تصافح بدل أن تهدد، وقلب يحب بدل أن يحقد. إن البيت الذي يتصدع من الداخل لا يرمم إلا بسواعد أهله، وصحراء النقب اليوم بحاجة إلى جميع أبنائه ليعيدوا بناء بيتهم الكبير، بيت الشعب. لتكن ذكرى آدم رميلي شاهدا على الألم ونقطة تحول نحو الوعي، ولنردد معا بصوت واحد، لن يكون النقب ساحة للدم بعد اليوم.