حتى نلتقي - أكتوبر

بقلم: يوسف أبو جعفر (أبوالطيّب) | 3 اكتوبر 2025

مزَّق الهدوءَ هذا الصباح صوتُ طائرةٍ تحوم في سماء المدينة، أقلقت الجميع، فقدوم الطائرة نذيرُ شؤم. لم نتعود حضور الطائرة، لكنها انصرفت بسرعة، لا ندري أكانت مكلَّفة بمهمة أم أن قائدها أُعجب بمدينة رهط فجرًا.

الغريب أن صوت الطائرة حدَّثنا في أنفسنا بكل شيء إلا الخير؛ ولذلك كانت أغلب بدايات الجمل: يا ساتر – والأولى أن نقول: يا ستير. كنا نتوقع فقط الأخبار السيئة والمؤلمة. لم نعد كما كنا في الماضي، فقد هرب منا الماضي بسرعة عجيبة، لم يودِّعنا وانصرف إلى ما يراه مناسبًا له. هرب وأخذ معه أحلام الطفولة وأبناء الوطن الواحد وأبناء المدينة الواحدة، هرب دون وداع كأنه كان يخشى الوداع أو بحاجةٍ أخرى لا أدري.

كل من يلاقيك يشعر أن الماضي كان أجمل رغم شظف العيش، والجميع يحدثك أن الماضي كان مليئًا بالأمن والاحترام والأمل. فجأة وبدون مقدمات انقلب حالنا منذ العام 2000؛ نعم، منذ أكتوبر عام 2000. شيءٌ ما حدث، شيء ما قرره أحدهم ربما في غرفة مظلمة، بسياسة مدبَّرة، أننا يجب أن نتغير نحو الهاوية. فرغم الطفرة الاقتصادية والعلمية التي من المفروض أن تأخذنا نحو الأفضل والأعلى، إلا أننا انحدرنا نحو مستنقع غريب من ضياع القيم والأخلاق.

في كل مجتمع منطقي يمكنك رؤية الجداول والبيانات متناسقة مع بعضها البعض؛ فمن الطبيعي أن الطفرة العلمية والاقتصادية يصاحبها رفاهية وأمن ونظافة وعدل اجتماعي ووعي قومي وديني، إلا في بلادي.

لقد كانت الطفرة، ولكن يبدو لي جليًا أن هناك من جلس وقرر أن الطفرة يجب أن توجَّه في اتجاه الفرد لا المجتمع، الذي يجب القضاء عليه بكل الوسائل الخبيثة. وأول هذه الوسائل الانسحاب بهدوء من أعظم سنن الطبيعة: الأمن والأمان. ولأولئك الذين ينهلون النظريات العلمية، فالدرجة الأولى في سلَّم ماسلو هي الطعام، ثم الأمن والأمان، وأعلاها الانتماء.

لذلك أؤمن بكل قواي العقلية أن الأمر دُبِّر في ليل، ونحن نراقب عن كثب. لا نستطيع رؤية الغرفة، ولكننا نرى أثرها اليومي. لقد أصبح الضياع والخوف، وحلول المرتزقة، واستعمال العنف لفرض الرأي والقوة على كل المستويات أمرًا عاديًا. فلا نعجب إذا رأينا غياب القيم كلها؛ لأن القيم تتحطم على صخرة العبث والضياع وعدم الانصياع، تتحطم عندما يُعبث بها الناس ويضحكون لأن لا عقاب.

الطفل الذي يسرق ويُكافَأ كل مرة بجائزة لا يؤثر على نفسه فحسب، بل يحطم نفوس كل الأطفال، لأنهم لا يعودون يؤمنون بالقيم كاملة. وهذا ما يحدث لنا.

ولذلك فإن الحديث عن القيم دون رادع هو كالحديث عن الشتاء في صحراء الربع الخالي أو السهارى المغربية.

ولأن أكتوبر شهر ذو رمزية كبيرة وفيه ذكريات كثيرة بين المؤلمة والمفرحة، لا أعرف مدى علاقة عالم التخطيط والمؤامرة به، إن كان يعشق هذا الشهر، ولكني على يقين أن تشرين الأول فيه رُسمت، وفيه تُرسَم، الملامح الحقيقية لشعبنا وأمتنا. ومن يظن أننا بمعزل عما يدور حولنا فهو واهم.

طائرة أقلقت مضاجعنا، شتَّتت أفكارنا ونحن على أرض صلبة، لبيوتنا أسقف، وبرَّاداتنا مليئة بالطعام، والسمنة والتخمة أنهكتنا، ومع ذلك لا نعرف الأمن. فكيف بمن هو هارب من أزيز المسيرة ولا يملك قوت يومه؟ كيف بمن همُّه الأول خدمة أجندة خفية لتحطيم مجتمعه؟

وحتى نلتقي، واهمٌ من يظن أن المجتمع يمكن أن يقع ويبقى الفرد. إن السور الذي يحمينا جميعًا هو المجتمع بقيمه وأخلاقياته، فإذا تحطم السور فمسألة السقوط إلى الهاوية لم تعد خيارًا، بل مسألة وقت لا غير.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة2007 ، يرجى ارسال رسالة: editor@yomalbadya.com - واتس-آب 972549653332

للحصول على الأخبار أونلاين تابع قناة يوم البادية على الواتساب WhatsApp