حتى نلتقي - المرتزقة
بقلم: يوسف أبو جعفر (أبوالطيّب) | 26 سبتمبر 2025
المرتزقة، تعريفًا، هم مجموعة من البشر يهمهم المال ويقاتلون مع من يدفع أكثر. لذلك جاءت الكلمة معبّرة عن طلب الرزق، ولكن ليس من بابه الأخلاقي والديني، بل حصرته في اكتساب المال. ولأن الثمن قد يكون الموت، تكون المكافأة المالية والعائد كبيرًا. ويتعدّى ذلك، ففي الغالب ما يُوكَل إليهم من مهام هي أقذر وأخطر الأمور.
أخلاقهم في الغالب من الدناءة، بحيث لا تمنعهم من ارتكاب الجرائم، فتأنيب الضمير هنا يغيب عن الساحة.
لقد درج الأوروبيون في قتالهم حول العالم وتدميرهم لكثير من الشعوب على استعمال المرتزقة في القتال وخلق الفوضى والهلع بين الناس. وقد أجاد هؤلاء، فلا ضمير حيّ ولا وازع يمنع ارتكاب كل الجرائم. وهكذا كان ينام الفرنسي والبريطاني دون قلق، وعندما يُسأل عن مرتكب الجرائم يشير إلى “المجموعة”. ومن يريد التفاصيل فليراجع كثيرًا من أحداث “فيلق الغرباء” الذي كان الفرنسيون يستعملونه في حروبهم، وهم في الغالب من أبناء الشعوب المحتلة (المستعمَرة).
الغريب أن هؤلاء في النادر ما كانوا يستعملون هذا الفيلق في البلد المحتل نفسه، ويعود ذلك إلى أنهم يمنعون الاحتكاك المباشر بين الشعب وأبناء جلدته، لكنهم يختارون الأشرس من بين الشعب ليصبح في هذا الفيلق ويقاتل في مكان آخر.
طبعًا هذه المقدمة الطويلة لم تأتِ لنشرح دروسًا عسكرية، ولكن لِنطرح واقعًا نعيشه الآن في مجتمعنا العربي في الداخل. فالمرتزقة تطوّروا وأصبحوا – بشكل غريب – من أبناء البلد الواحد ضد أبناء الشعب الواحد. ولا تحتاج هذه المجموعات للعمل مباشرة مع الدولة أو أنظمتها، إذ يكفيها أن الدولة تغضّ الطرف عنها لتعمل داخل المجتمع ما صنعه “فيلق الغرباء” في الجيش الفرنسي.
نحن اليوم، في المجتمع العربي، نشاهد غياب السلطة المركزية. هذه الحكومة تعي جيدًا أنّها عندما أطلقت يد المجرمين للعبث فسادًا، إنما أقامت “فيلقًا” هدفه الأول جمع المال، وقوة ضاربة ضد المجتمع نفسه. وبذلك خلقت أرضية خصبة للخوف والقلق والضياع. وفوق ذلك كله استطاعت أن تجني ثمار هذه المعركة التي يقوم بها “مرتزقة المجتمع العربي في إسرائيل” دون أن تُتَّهم بأي شكل من الأشكال الأدبية أو الأخلاقية. فالمجتمع يقتل بعضه بعضًا: العربي عندما يقتل عربيًا لا يقلق أحدًا، أما عندما يقوم شرطي أو جندي بقتل عربي فهذه أخبار عالمية.
وعندما يقوم عربي بترويع عربي آخر، ويدفعه إلى الهجرة من الداخل إلى الضفة الغربية أو أراضي السلطة الفلسطينية بحثًا عن الأمن، فهذه هجرة طوعية وليست جبرية. وكذلك إلى كل البلدان في أوروبا وغيرها. أي استطلاع للرأي حول قضية الهجرة سيعطي مؤشرًا أقوى من السابق، وكل ذلك مردّه إلى هذه المرتزقة الجديدة التي دخلت حياتنا.
قد يدّعي البعض أن الناس تقاتل بعضها، لكن هذا الادعاء لا يمتّ للحقيقة بصلة. ففي كل الظروف هناك جماعات مستأجَرة لا تملك الضمير، وجنود من المدنيين الذين يملكون السلاح يأخذون اليوم ما لا يحق لهم من الناس: أموالًا وأملاكًا وغيرها كثير.
وحتى نلتقي، نحن في هاوية تتعدّى قضية الجريمة والعنف. نحن أمام منظومة ممنهجة هدفها أكبر بكثير من الأموال. هدفها الأكبر هو اقتلاع الناس من أوطانهم، من بيوتهم، من أنفسهم. فعندما يسيطر الخوف، لا يستطيع أحد أن يفكر إلا في شيء واحد: صراع البقاء، دون أي حديث عن الأمل أو التطور، فقط صراع البقاء.