الإمبراطوريات بنيت على جماجم الشعوب وصقلت أدواتها بدماء المغلوبين

بقلم: كايد أبو لطيّف | 13 سبتمبر 2025

بئر السبع، النقب، الجليل، المثلث، الساحل. كلما دوّى صوت الرصاص، هرعت الأصوات ذاتها إلى المنصات، وجلس المحللون في استوديوهاتهم المكيّفة ليطلقوا العبارات المعلّبة نفسها "لماذا العنف في المجتمع العربي؟ يتحدثون بملامح متجهمة وكأنهم يدرسون ظاهرة كونية، وكأن العرب نوع بشري منفصل يحمل كروموسومًا قاتلًا يدفعه لقتل نفسه، وكأن بقية البشر أمة من الملائكة تمضي وقتها في تبادل الورود وتأليف القصائد.

لكن لحظة، دعونا نستعيد القصة منذ بدايتها. أليس العنف هو اللغة التي كتبت بها الحضارات تاريخها؟ أليست الإمبراطوريات قامت على جماجم الشعوب، وأدوات الهيمنة صُقلت بدماء المغلوبين؟ منذ أن رفع قابيل يده على هابيل، والبشر يقتلون بعضهم البعض بذرائع مختلفة، باسم السلطة، وباسم المال، وباسم العقيدة، وأحيانًا لمجرد أن الجريمة تحوّلت إلى تجارة تدر الأرباح. لكن فجأة، حين يكون الضحية عربيًا والقاتل عربيًا، يصبح العنف ليس جريمة، بل "مشكلة عربية".

لا يحتاج المرء إلى شهادة دكتوراه في علم الاجتماع ليستنتج أن العنف ليس اختراعًا عربيًا. من الحروب الصليبية إلى الإبادات الجماعية، من الغزو الاستعماري إلى حروب النفط، كل هذا العنف لم يكن من إنتاج "العقلية العربية"، بل كان منتجًا عالميًا بامتياز، ساهمت فيه أمم تفخر اليوم بأنها "نموذج للحضارة والتقدّم".

لكن العجيب أنه حين تقع جريمة قتل في نيويورك، يكون النقاش عن الأسلحة غير الشرعية والعصابات والتهميش الاجتماعي. وحين يحدث عنف في باريس، يتحدثون عن الفقر والتمييز والعنصرية. لكن حين تسيل الدماء في أم الفحم أو اللد أو النقب، يكون الحديث عن "الثقافة القبلية"، عن "غياب التربية"، عن "الفوضى المتأصلة في المجتمع العربي". كأن العنف عند العرب ليس ظاهرة لها جذور وأسباب، بل لعنة بيولوجية كتبها القدر عليهم ليقتلوا أنفسهم بلا سبب!

القاتل الحقيقي ليس ذلك الشاب الذي ضغط على الزناد في زقاق مظلم، وليس التاجر الذي يوزّع الأسلحة كما يوزّع الحلوى في الأعياد، بل هو ذلك الذي سمح لهذا العنف أن يتحوّل إلى نمط حياة. هو الذي يملك الصلاحية لكنه لا يستخدمها إلا حين يناسبه، هو الذي يعرف أسماء القتلة لكنه يراقبهم من بعيد، هو الذي يسيطر على تدفق السلاح لكنه يختار متى يغلق الصنبور ومتى يفتحه على مصراعيه.

ومع ذلك، في كل مرة تُطرح المسألة، يكون التركيز على الضحية نفسها. لماذا أنتم عنيفون؟ لماذا لا تحترمون الحياة؟ لماذا لا تحلّون مشاكلكم بالحوار؟ وكأن الضحية مسؤولة عن الجريمة، وكأن مجتمعًا يُغرقونه عمدًا في الفوضى والعوز والتفكك، يُتوقع منه أن ينتج مواطنين مثاليين يحملون كتب الفلسفة بدلًا من الأسلحة.

هُنا تتحوّل الأسئلة إلى جريمة بحد ذاتها. لأنها تغطي على الفاعل الحقيقي، وتحوّل الضحية إلى متهم، وتخلق شعورًا زائفًا بأن العرب يعيشون في دوّامة عنف صنعوها بأيديهم، بينما الحقيقة أنهم جزء من لعبة أكبر، تدار بخيوط غير مرئية لكن آثارها واضحة في الشوارع التي تلطخت بالدماء.

لماذا تنتشر الجريمة في المجتمع العربي، بينما تُضبط بقوة القانون في مناطق أخرى؟ من يتحكم بتجارة الأسلحة؟ وكيف تمر هذه الأسلحة دون أن يوقفها أحد؟ لماذا يُقتل أشخاص معروفون بهوياتهم وانتماءاتهم، بينما لا يُعتقل القتلة رغم أن كل شيء تحت المراقبة؟ من المستفيد من انشغال المجتمع العربي بنفسه بدلًا من الانشغال بمستقبله؟

حين نبحث عن هذه الإجابات، سنكتشف أن العنف ليس نابعًا من "ثقافة عربية عنيفة"، بل من منظومة ترى في استمرار الجريمة وسيلة لإبقاء المجتمع مشغولًا بنفسه، غارقًا في أزماته، بعيدًا عن التفكير في الأسئلة الكبرى، مثل "من يحكم؟ ولمصلحة من؟"

الحل ليس في المزيد من الخطابات الفارغة عن "التسامح"، ولا في المؤتمرات التي تتحدث عن "تعزيز السلم المجتمعي" في قاعات مغلقة بينما تواصل الرصاصات عزفها في الشوارع. الحل يبدأ من إدراك أن الجريمة ليست مشكلة عربية، بل مشروع سياسي واقتصادي يخدم مصالح محددة.

لا يمكن معالجة العنف إلا بفهم جذوره، ولا يمكن إنهاء الجريمة إلا بملاحقة من يديرها، لا من ينفذها فقط. يجب أن نخرج من دوامة الأسئلة السطحية التي تحمّل الضحية مسؤولية موتها، ونتجه إلى الأسئلة الحقيقية التي تشير بأصابع الاتهام إلى من يصنع هذا الواقع، ويحافظ عليه، ويستفيد منه.

في المرة القادمة التي يسألكم فيها أحدهم لماذا أنتم عنيفون؟ لا تنشغلوا بتبرير أنفسكم، ولا تدخلوا في لعبة الدفاع عن مجتمعكم وكأنه متّهم في قفص المحكمة. بل اسألوهم بحدة. لماذا يُسمح لهذا العنف بالاستمرار؟ من يملك السلطة لكنه لا يستخدمها إلا حين يناسبه؟ لماذا حين تكون الجريمة في مجتمع آخر، تُطرح الأسئلة عن الاقتصاد والقوانين، لكن حين تكون عند العرب، يكون الحديث عن "ثقافتهم"؟ لا تسمحوا لهم بتحويلكم إلى مادة للتحليل البارد، ولا تقبلوا بأن تكونوا مجرّد أرقام في إحصائيات الجريمة، بل طالبوا بالبحث عن الفاعل الحقيقي، عن العقل المدبّر، عن اليد التي تضغط على الزناد من خلف الستار. لأن الجريمة الحقيقية ليست ما يحدث في الشارع، بل ما يحدث في غرف القرارات المغلقة، حيث تُرسم حدود الفوضى، وتُحدد مساحات الدم، وتُصاغ الأسئلة الخاطئة، كي تبقى الحقيقة دائمًا بعيدة عن الأنظار.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة2007 ، يرجى ارسال رسالة: editor@yomalbadya.com - واتس-آب 972549653332

للحصول على الأخبار أونلاين تابع قناة يوم البادية على الواتساب WhatsApp