حتى نلتقي - مفعول لأجله
بقلم: يوسف ابو جعفر (أبو الطيّب) | 12 سبتمبر 2025
لطالما تعجّبنا ودرسنا كيف تختفي الحضارات: ما الذي يمنح حضارةً القدرة على الاستمرار؟ وما الذي يُنبئ بقرب زوالها؟ هذه الأسئلة تشغل بال الكثيرين من أصحاب القرار. أسئلة كبيرة لا أستطيع الإجابة عنها، وذلك لكثرة المركِّبات التي يضعها المفكرون والباحثون. فمن الطبيعي أن يلتقي العلم والرغبة والأمنيات عند الكثيرين في لحظة مناقشة قضية كهذه، وهو ما نسمّيه بالعربية: اختلاط الحابل بالنابل.
ولكن الأولى أن نرتكز على مؤشِّر وحيد لانحطاط الحضارة، وهو عنصر العربدة؛ ذلك مقياس عاميّ لقضية عالمية وفلسفية. وبما أنني لست ضليعًا كفايةً للإجابة على الحضارات منذ بدايتها: بلاد ما بين النهرين، الهلال الخصيب، الفراعنة، اليونان، الرومان، الفرس، الصينيون، العرب المسلمون، وكل هؤلاء وصولًا إلى يومنا هذا؛ فلذلك أقترح عليكم ـ أيها السادة والسيدات القرّاء ـ أن ننظر إلى العربدة في منظور محلي.
والعربدة، بمفهومنا اليومي النقباوي، تعني: لا قانون، ولا أخلاق تُلزم الشخص، بل فقط رغباته الجامحة الوقحة البعيدة كلّ البعد عن الأخلاق والقيم. وفوق ذلك كله: غياب الردع من الطرف المُعربَد عليه، أي “المفعول به” لغةً، وأحيانًا "المفعول لأجله"، لأن الذي يعربد قد يكون رسولًا لغيره.
فهناك عربدة ظاهرة قديمة بأسلوبها القديم تنتهج مبدأ القوة، وأخرى حديثة يتّخذ فيها بعض الناس التبجّحَ وقلةَ الأدب والموقعَ الحالي أو السابق ذريعةً للعربدة، فتخرج كلماته من فيه بأبشع الصور. وأشكال العربدة الحديثة تزدهر في غياب النظام، ومن أشكالها ليس فقط الكلام، بل الفعل: فوقف السيارة وركنها في أماكن ممنوعة عربدة، وتخريب الممتلكات العامة عربدة، والتهجّم على الناس عربدة، ويكفينا أن نتكلّم نصف سطر عن إطلاق النار بشكل مباشر لندرك أنها عربدة بلا نقاش.
إذًا، محصّلة الأمر أنّ أشكال العربدة كثيرة، ولكن ما يهمّني نوع واحد منها، وهو: عربدة المفعول لأجله! ومتى يتخلّى الباعث عن المبعوث؟ متى يتوقف المُعربِد عن عربدته، لأنه مأمور بالعربدة، أو يجد له حيزًا يعربد فيه كيف يشاء بصيت سيّده؟
إن أخطر أنواع العربدة هي عربدة المفعول لأجله، لصالح طرفٍ ثانٍ هو المنتفع الحقيقي، في حين أن المعربِد يظهر وكأنه هو السيد. وأحيانًا لا نستطيع رؤية الفرق، أو قل: لا نعرف سوى أنّ العين الفاحصة تستطيع التفريق.
ومثال ذلك: مطلقو النار المستأجَرون، القتلة الأجيرون، الزعران والعصابات الإجرامية. هؤلاء في الغالب لا يظهرون للناس، ويبحثون عن تنفيذ المهام والاختفاء. وهناك نوع آخر يريد الظهور ليحصل على قوة ردع أمام الجمهور؛ هذا الأخير يضرب ويعربد دون رادع كي يبني لنفسه قوة محلية، في حين يعتمد هو على "المفعول لأجله".
وهذا الأخير موجود بكثرة على مستوى الدول والمنظمات، وفي المستوى الشعبي اليومي بين العائلات والحمائل. هناك من يريد نشر ثقافة عربدة المفعول لأجله. فعلى مستوى الدول كانت وما زالت منذ الحرب الباردة، وتستمر حتى يومنا هذا تحت مسمّيات التحالف العسكري واتفاقيات الدفاع المشترك، في حين أنّ كل العربدة في النهاية للمفعول لأجله.
في حالات الصراع أسرعُ شيء هو التنازل عن المبعوث أو الخادم المعربِد حتى تحمي نفسك. ولذلك، في صراعات الدول والحضارات، يتم الاستغناء عن هذا الخادم بسرعة كي تحمي القوة نفسها. هكذا تخلّت كثير من الإمبراطوريات عن الخُدّام والمقاتلين، واليوم يتم الشجب والاستنكار لأعمال المبعوث الخادم، حتى وإن تصرّف برضى السيد.
وحتى نلتقي: ليعلم كل المعربدين من أجل أنفسهم ومن أجل غيرهم أنّ هناك لحظة ثورة ضد العربدة، وهذه تأخذ الأخضر واليابس. وعندما تشتد الخطورة يتخلّى الجميع عن المعربِد. ففي لغة البدو: "يُشمَّس المعربِد"، وفي نظام الدول يصبح نهج الشجب والاستنكار أوّل الغيث، ثم ينقلب الحال إلى تفتيتٍ وتنازلٍ عن الدول، وما حال يوغسلافيا عنّا ببعيد..