حتى نلتقي – عطرٌ مزيف

بقلم: يوسف أبو جعفر | 5 سبتمبر 2025

زعموا أن الرذيلة خرجت من مستنقعها يومًا، فتذكّرت أيّامها قبل دخولها المستنقع، وأدركت أن البقاء فيه ليس سهلًا؛ فالرذيلة تُعرَف من بعيد، لا حاجة لأن يُشار إليها. خرجت وعندها همٌّ واحد: كيف لي أن أقنع الناس أني الفضيلة؟

لو كانت تبغي ذلك حقًا لما تعبت في الاختيار، ولكنها خرجت في زمن التنكّر، زمن المستشارين، وزمن الإعلام المضلّل. خرجت وفي عينيها دموع التماسيح، خرجت لتغتسل وتخفي روائح المستنقع؛ تلك التي يشمّها الغادِي والقادم، وتعرفها الأنوف التي تربّت على الفضيلة. خرجت في الخفاء وبهدوء، حاولت التنكّر، فبحثت في حوانيت العطور المزيّفة وفي شارع (6) عن أولئك الذين يبيعون العطور المغشوشة في عبوات جميلة. أقنعت البائع أن يعطيها كل العبوات، وخرجت مسرعة لترشّ على جسدها النتن عطرًا مزيفًا دون غسيلٍ أو صابون. ارتدت من كل أصناف الملابس الجميلة، وتوشّحت بديباجة التائبين.

أما الإكسسوارات فحدّث ولا حرج؛ ففي زمن العبث يصبح العقل عيبًا. خرجت علينا تبشّرنا وتنصحنا وتملي علينا الخير بكلام الواعظين، وفي كل كلمة تنتظر منّا أن نقول: آمين.

في بلادنا الصيف حارّ، لا يرحم المغفّلين. ففي لحظة نسيت الرذيلة أن عطرها مزيف لا يدوم سوى للحظات، فبدأت رائحته تتبدّل، ودون مقدمات سقط القناع وضاعت المساحيق، وملأ الجوّ رائحة الكراهية والحقد الدفين. وفوق ذلك كله تلبّدت غيوم الصيف تنبئ بمطرٍ قريب.

خرجت، وتذكّر الناس قبل قليل كيف يسقط البشر في مستنقع الرذيلة. وقالت الحكمة دون كلام، بصمت العاقلين: أوّل منزلق الرذيلة الكذب، ثانيها إخلاف الوعد، ثالثها السقوط نحو الفساد بكل أنواعه الخُلُقي والمالي. ولا عزاء للمغفّلين.

هكذا، ودون مقدمات، تحاول الرذيلة الخروج. لكنها لا تستطيع مقارعة الفضيلة، فالمساحيق كلّها لا تغيّر الحقيقة، الحقيقة التي يعرفها شعبي كلّه في كل مكان.

شعبي وقومي يعرفون المنافق الكاذب، يعرفونه جلَّ المعرفة، حتى ولو أدبًا جامله الناس أو احتضنوه. كلّهم يعرفونه: يعرفون من أين وإلى أين، كيف عاش وكيف سقط. لا شيء يمكنه منع نور الفضيلة والحقيقة.

شعبي يعرف كل أولئك المتسلّقين الكاذبين، ويعرف الصادقين في كل الميادين: في السياسة، في الدين، في العلم، في الاقتصاد وعالم المال، في دروب الخير، وحتى في حديث الليل. يضحك المتسامرون على غباء الرذيلة التي تلتحف عطرًا مزيفًا تظنه يُسمّى فضيلة.

أكثر ما يحزن أن الناس ينادون بالقيم دون إدراك أنها لا تأتي هكذا؛ لا بدّ لها من قدوة. وهنا لا ينفع العطر، ولو كان من أطيب الزهور؛ فالعطر الحقيقي يأتي من القلب، يجري مع الدم، لا يُرشّ على الجلد، بل يفرزه الجلد عبقًا لكل من يمرّ حول القيم.

لا تُحدّثني عن العفاف وأنت لا تعرف منه سوى الاسم، ولا عن الشفافية ويدك ملوّثة بالرشوة، بالسطو، بالاعتداء.

فيلسوف الإغريق سقراط، عندما قال: تكلّم كي أراك، فسّر كثيرون كلامه؛ فالكلام يُظهر المناقب، يُظهر الحقائق دون رتوش. ودوستويفسكي قال: قد يكون في أعماق المرء ما لا تكشفه الثرثرة. ولذلك يتشبّث البعض بهذه المقولة. أما أنا فأقول: ذلك صحيح عندما لا يعرف الناس الثرثار. أما في بلادي فنعرف جيّدًا تاريخ أكثر الناس.

وحتى نلتقي، الرذيلة لا تنفع معها كل عطور العالم ولا كل ماركات الملابس؛ فمن جاء من المستنقع لن يستطيع نشر الفضيلة. هذه تحتاج إلى رجال صدقوا الله ومجتمعهم، ونشروا الخير لا ينتظرون شهادة من أحد. لا يغرنّكم كثرة العطور؛ فحلّها ينتهي تأثيره، ورائحة المستنقع ستعود. أمّا الفضيلة فلا تحتاج إلى عطور، لأنها عبق ربّاني يهدي إلى النور.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة2007 ، يرجى ارسال رسالة: editor@yomalbadya.com - واتس-آب 972549653332

للحصول على الأخبار أونلاين تابع قناة يوم البادية على الواتساب WhatsApp