إعادة بناء سوريا - أولويّة وطنيّة ومسؤوليّة جماعيّة

بقلم: الشيخ صفوت فريج | الجمعة 27 ديسمبر 2024

وصف الشّيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- دمشقَ، في مجموعة "ذكريات"، فقال: "دمشق؟ وهل توصف دمشق؟ هل تُصوَّر الجنّةُ لمن لم يرها؟ كيف أصفُها وهي دنيا من أحلام الحبِّ وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟ من يكتبُ عنها وهي من جنّات الخلد الباقية بقلمٍ من أقلام الأرض فانٍ؟ دمشق الّتي تعانقها الغوطة.. الأمُّ الرؤوم الساهرة أبدًا.. تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة وقهقهة الجداول المنتشية من رحيق البردى.. الراكضة دائمًا نحو مطلع الشمس..".

ثمَّ تُنتَكب دمشق وسائر بلاد الشام. منذ أكثر من عقد، والشعب السوري يواجه ويلات الحرب والظلم والنزاعات الّتي خلّفت تمزُّقًا عميقًا في النسيج المجتمعي والبنى التحتيّة وانهيارًا تامًّا في الاقتصاد السوري. ملايين السوريّين وجدوا أنفسهم لاجئين مستضعفين بلا حولٍ لهم ولا قوّة في بلاد عربيّة وأجنبيّة، وآلاف مؤلّفة منهم لقوا حتفهم وهم هائمون على وجوههم، هاربون من ظلم أذرع نظامٍ لم يرقب فيهم إلًّا ولا ذمّة. هذا بعد أن كانت سوريا منارة الحضارة والعلوم، يشدّ علماء الأرض الرحال نحوها، كما كانت مهدًا لحضارات ما زلنا ننعم بأثرها إلى يومنا هذا. هذا ابن النفيس، موسوعة طبّيّة ومكتشف الدورة الدمويّة الصغرى، وابن كثير والطبراني وشمس الدين الذهبي، وتكاد تعجز تراجم الرجال عن إحصاء أعداد أفذاذ الشام.

وكأنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد استشرف هذا الزمان حين قال: اللهمّ بارك لنا في شامِنا، اللهمَّ بارك لنا في يمنِنا. قالوا: وفي نجدِنا يا رسول الله؟. قال عليه الصلاة والسلام: اللهمّ بارك لنا في شامِنا، اللهمّ بارك لنا في يمنِنا. فقالوا: وفي نجدِنا يا رسول الله؟ قال ابن عمر: أظنّه قال في الثالثة: الزلازل والفتن هناك، وهناك يطلع قرن الشيطان".

لسنا الأقرب إلى سوريا باللهجة والثقافة والعروبة والدين فقط، بل نحن الأقرب إليهم في وحدة المصير أيضًا، كإخوة ذاقوا من الويلات والنكبات ما ذاقوا، لا سيّما ونحن امتداد الشام وجزء لا ينفصل عنه. نحن نقف إلى جانب سوريا وأهلها من خلال روابط الدين والعروبة والإنسانيّة، نؤازرهم في محنتهم ونسعى إلى دعمهم في بناء دولتهم واستعادة استقرارهم بكلّ ما آتانا الله من قوّة وقدرات

ورغم المآسي والمشاهد الّتي تجعل الولدان شيبًا، يُظهِر الشعب السوري قوّةً وصمودًا وإرادةً استثنائيّة، ونلمس هناك عبر ما يصلنا نوايا طيّبة في ترميم الشام حجرًا وشجرًا وبشرًا، ممّا يعزّز فينا الأمل بأنّ أمجاد الشام عائدة بإذن الله من جديد. ولم يفاجئنا ذلك، فقد تكفّل الله بالشام، كما قال من لا ينطق عن الهوى: "عليكم بالشام، فإنّها صفوة بلاد الله، يسكنها خيرته من خلقه.. إنّ الله عزّ وجلّ تكفّل لي بالشام وأهله". ولا شكّ أنّ إعادة بناء الشام تتطلّب تضافرًا محلّيًّا من كافّة القوى، وتعاونًا دوليًّا لا سيّما عربيًّا، مع الحفاظ على استقلاليّة سوريا، وأن تكون إرادة الناس هي الفصل في كلّ خطوة، خاصّة في بناء المنظومة المؤسّساتيّة، والرؤية المحلّيّة والعلاقات الدوليّة وفقًا للأولويّات التالية:

1. السلام والاستقرار الداخلي: الوحدة الوطنيّة هي حجر الأساس لإعادة اللحمة بين كافّة أطياف ومركّبات الشعب السوري، وتحقيق سلام داخلي شامل.

2. إعادة إعمار البنى التحتيّة: بما يشمل بناء المدارس والمستشفيات والمعاهد والمحاكم وأجهزة الطوارئ والملاعب والمحلّات الأثريّة والسياحيّة والأسواق والمجمّعات والشوارع، وذلك كخطوة أساسيّة نحو تحقيق التعافي من الدمار الّذي لحق بسوريا.

3. تنشيط الاقتصاد: بدعم المشاريع الصغيرة والكبيرة، تشجيع الاستثمار، وخلق فرص عمل للشباب، واستقطاب المبادرين من دول العالم، بما يمكِّن من تعزيز الاقتصاد السوري واستعادة عافيته.

4. دور المجتمع الدولي والدول العربيّة: على المجتمع الدولي مسؤوليّة إنسانيّة لدعم سوريا وشعبها، بما يشمل: تقديم مساعدات إنسانيّة عاجلة، دعمًا ماليًّا وتقنيًّا لإعادة الإعمار، تسهيل عودة اللاجئين، والمساهمة في المصالحة الوطنيّة.

دورنا نحن كفلسطينيّين تجاه سوريا

لسنا الأقرب إلى سوريا باللهجة والثقافة والعروبة والدين فقط، بل نحن الأقرب إليهم في وحدة المصير أيضًا، كإخوة ذاقوا من الويلات والنكبات ما ذاقوا، لا سيّما ونحن امتداد الشام وجزء لا ينفصل عنه. نحن نقف إلى جانب سوريا وأهلها من خلال روابط الدين والعروبة والإنسانيّة، نؤازرهم في محنتهم ونسعى إلى دعمهم في بناء دولتهم واستعادة استقرارهم بكلّ ما آتانا الله من قوّة وقدرات، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}، وقد شاركنا بفضل الله في حملات إغاثة من الداخل والقدس، وقدّمنا الدعم بكلّ حبٍّ وصدق، مؤمنين بحقّ الشعب السوري في الحرّيّة والعيش الكريم.

ولسنا نطالب سوريا بأكثر ممّا تستطيع في هذه المرحلة، فهي ما زالت تلملم جراحها. لكنّها مرحلة التأسيس، ولا بدّ وأن تكون على أسس متينة وإن كانت بطيئة، فسوريا والحمد لله تملك من مقوّمات بناء الدولة القويّة ما تجعلها لاحقًا بغنى عن أيّ مساعدات، إذا ما خلت الأيادي الأجنبيّة منها ومن التلاعب بخيراتها ومقدّراتها.

بورك بالشام، أرض المحشر والمنشر، بورك بأهل الشام، "ألا إنّ الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام"، صدق رسول الله.

^رئيس الحركة الإسلاميّة

<