حتى نلتقي.. أنطوان كندوره
بقلم: يوسف أبوجعفر (أبوالطيّب) | الجمعة 13 ديسمبر 2024
في حياتنا، هناك لحظات تكون فاصلة وقوية، تحمل تأثيرًا كبيرًا، لأنه بعدها ننظر إلى الأمور من زاوية مختلفة. ليس كما كنا نراها من قبل. الأشخاص والأماكن، كلها تبدو لنا بشكل جديد. التقيت به في إحدى مدن أوروبا. كان شابًا، ربما تجاوز الآن الستين. مليء بالأدب والخلق، ولهجة سورية لا تخطئ، تعكس شخصيته بكل وضوح. شربنا القهوة معًا، وتحدثنا عن بلده، وكان هادئًا في كلامه، قليل الكلام، يحب الصمت. كنا ندرس في المعهد ذاته، وكان قليل المعرفة عن فلسطينيي عام 48. عرفت من اسمه أنه مسيحي، لكنني كنت أحب أن أسمع منه عن الشام، جمالها، جبالها. كان فنانًا، التحق بمعهد الفنون، وكان يخصص معظم وقته للرسم.
في أحد أيام الأحد، خرجنا بعد الظهر لزيارة سوق شعبي. كان السوق يعج بالناس، والطعام، والشراب، والضحكات في كل زاوية. في المنتصف، كان هناك صاحب لعبة رماية بالبندقية. اصطف الناس ليحاولوا إصابة الهدف، ومن ينجح يحصل على هدية. محاولاتي العشر كانت فاشلة، مثل معظم الآخرين. بينما كان أنطوان يبتسم، حاول أن يشرح لي سبب فشلي. قلت له بالعامية: "وريني شطارتك". فأخذ البندقية وأصاب الهدف من أول رصاصة، ثم الثانية، والثالثة. بدأ صاحب المحل بالصراخ، وكان فهمنا الإيطالي ضعيفًا، لكننا أدركنا أنه يطلب منا التوقف لأن أنطوان سيُفرغ المكان من جوائزه.
شهادات من الجحيم: قصة الهروب من ظلم الحرب
لا أذكر إذا حصلنا على هدية، لكنني جلست مع أنطوان وسألته: "كيف لك هذه المهارة؟" فقال لي: "اسمع قصتي. كنت في الخدمة العسكرية، وكنا نتدرب على إطلاق النار". استغربت، فقلت له: "هارب من بلد العروبة والقومية؟ بئس الرجل أنت!" لكنه أجاب بصوت متهدج، بدأ بالبكاء: "لو رأيت ما رأيت، لما كنت لتبقى. شاهدت كيف يُهان المسيحي لمجرد أن له لحية. رأيت الأطفال يُقصفون داخل المساجد فقط لأنهم هربوا من الحواجز. رأيت المجازر في حماة، كيف قُتل الناس وتدمّرت البيوت لمجرد اعتراضهم على الحكم".
تذكرت تلك الليلة بكل تفاصيلها، تلك التي جعلتني أبحث عن الحقيقة. بدأت أدرك أننا نعيش في عالم لا يرى ولا يسمع ولا يشم. فهمت أن الطغاة يمتلكون الوسائل لتصدير الحقائق كما يريدونها، وسيتبعهم الكثيرون من المنافقين والمتعلمين، وأولئك الذين يصفقون للحكام. وقتها، أدركت أن معادلات القوة والمصلحة هي التي تحرك الظلم، سواء كان في الشرق أو الغرب، وأن كل الظالمين، أينما كانوا، يتبعون نفس المبدأ.
لا أعرف أين هو أنطوان اليوم. رغم أن تواصلنا كان مقتصرًا على رسائل قصيرة، إلا أنه كان حاضرًا في قلبي هذا الأسبوع. كان يحدثني عن الظلم، والقهر، والهجرة، والهروب. أخبرني عن غياب العدالة في الشرق، وقال إننا نحب الظلم تحت مسميات كثيرة، وأننا نبرره بألف تفسير ليظل مستمرًا. أخبرني أن الحرية لها ثمن، وأنه لا شيء يحدث بمفرده. لا بد لحبة رمل أن تتحرك حتى ينهار الجبل.
حتى نلتقي، وددت لو أستطيع أن أقول لأنطوان: "عد إلى حماة، وأخبر الجميع أننا ما زلنا نعيش في خوف وقلق بسبب كثرة الظلم. نحلم بالحرية، لكن قلة فقط يعملون من أجلها. أخبرهم أن لا شيء قد تغير، وأن هامش الحرية في عقولنا ما زال موجودًا، رغم أننا نخشى الدخول فيه. أخبره أنه كان سببًا في زيادة مساحة الحرية في داخلي، وأنني أذكره حتى نلتقي."