رايات الحرية ترفرف فوق سوريا… وماذا بعد؟
بقلم: إحسان الفقيه - القدس العربي | 9 ديسمبر 2024
ستة عقود مضت على الشعب السوري، وهو يئن تحت وطأة نظام الأسد، الذي سام الشعب سوء العذاب، يعيث فيهم قتلا واعتقالا وتضييقا واغتصابا للأعراض، في الوقت الذي ترك الجولان، ذلك الجزء الغالي من الوطن في أيدي الصهاينة، الذين سلِموا منه ولم يوجه إليهم رصاصة واحدة طيلة ثلاثين عاما، حسب تعبير نتنياهو.
مع فجر الثامن من ديسمبر، تحقق حلم السوريين وسقط هذا النظام القمعي الفاشي، وتنفس الشعب هواء الحرية، تحرر من كان يقبع ظلما وراء القضبان، وعادت الجماهير في المدن المحررة إلى أطلال منازلهم ليعيدوا بناءها من جديد. منذ انطلقت عملية ردع العدوان، بدا أن المعارضة ليست كما في السابق، لا من ناحية التسليح، ولا من ناحية التكتيكات، ولا من ناحية التنظيم، وفي أقل من أسبوعين من القتال استطاعت تحرير إدلب وحلب وحمص، ودخلت دمشق في ظل انسحاب وهروب قوات النظام من كل مواقعها، حتى أعلن صباح هذا اليوم عن سقوط نظام الأسد وفرار رأسه إلى وجهة غير معلومة.
كل شيء كان يبشر بأن النظام، بات سقوطه وشيكا جدا، حيث تخلى عنه الحلفاء الذين كان يلوذ بهم بشار، بعد أن أدركوا أن أية محاولة لإنعاش هذا النظام المهترئ ستبوء بالفشل. فروسيا المنشغلة بالبوابة الشرقية لأوروبا وحرب أوكرانيا صرح مسؤولوها، بأن ليست لديهم خطة لإنقاذ الأسد، بينما يفر جنوده تاركين مواقعهم أمام زحف المعارضة. إيران التي دخلت بقوتها الضاربة من الحرس الثوري أرض سوريا للدفاع عن الأسد، إضافة إلى الميليشيات الموالية لها من العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها، بدت في ظل قيادتها الجديدة أنها تخلت عن أذرعها وانكفأت على أزماتها الداخلية ومشكلاتها مع الغرب حول النووي، وشرعت في إجلاء قادتها من الحرس الثوري ومستشاريها من الأراضي السورية، بعد أن تأكد لديها أن لا فائدة من دعم النظام المهترئ. هو نظام مهترئ بالفعل، يرتكز على دعم حلفائه، فحاضنته أقلية علوية، وجيشه يتولى إنتاج مخدر الكبتاغون والاتجار به حتى صارت سوريا أكبر الدول إنتاجا له، ولم يستطع الأسد حل الأزمات الاقتصادية التي ضربت البلاد، وهو الذي كان يعتمد على معونات الأصدقاء، وعليه لكل بيت من بيوت السوريين ثأر مؤجل. أما الغرب، فقد أعلنها ترامب صراحة أن لا علاقة لأمريكا بما يحدث في سوريا، وأنها ليست حليفة، وليس بشار الأسد صديقا، بينما تعاملت الصحف الأمريكية والغربية مع سقوط نظام الأسد بأنه وشيك، وتبدلت لهجتها الحادة تجاه المعارضة السورية.
سقط نظام الأسد، وعمت الفرحة أرجاء سوريا، واستبشرت كل الجماهير التواقة إلى الحرية في العالم العربي، لكن ماذا بعد سقوط الأسد؟
هذا السؤال ليس مبعثا للتشاؤم بشأن مستقبل سوريا، لكنه مواجهة ضرورية لازمة في ظل نشوة النصر، لأن المقبل ليس هيّناً، ودائما ما تكون الأجواء التي تعقب سقوط الأنظمة ملبدة بالغموض والفوضى والانقسامات.
تواجه سوريا الجديدة مخاوف انقسام الفصائل التي توحدت كلمتها في مواجهة النظام، فهل سيكون همها الأول والأخير إعلاء مصلحة الوطن، أم تتجاذبها الأيديولوجيات والاتجاهات الفكرية، ويذهب كل منهم في طريق ويحدث اقتتال داخلي، كما عانت أفغانستان بعد تحريرها من الروس؟
كل شيء كان يبشر بأن النظام، بات سقوطه وشيكا جدا، حيث تخلى عنه الحلفاء الذين كان يلوذ بهم بشار، بعد أن أدركوا أن أية محاولة لإنعاش هذا النظام المهترئ ستبوء بالفشل
تواجه سوريا الجديدة مخاوف من شكل الإدارة الجديدة للدولة، هل ستتعامل المعارضة – التي حتما ستشرف على الفترة الانتقالية- بعقلية الجماعة، أم بعقلية الدولة؟ هل ستتعامل بمنطق فردي أو مؤسسي؟ هل ستحمل الدولة على طموحاتها المنهجية أم تتبنى حوارا وطنيا جامعا؟ كما تواجه سوريا الجديدة مشكلة نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الموالية لأمريكا، التي تقع أبرز حقول النفط تحت نطاق سيطرتها، هذه القوات طعنت الثوار في ظهورهم منذ أيام، وشنت هجوما على عدة قرى في ريف حلب وسيطرت على بعضها، في محاولة للتوسع باتجاه مواقع قوات المعارضة. تلك هي أبرز المخاوف التي تحوم في الأجواء بعد سقوط نظام الأسد، وحتى من قبل سقوطه.
قبل كتابة هذه السطور بدقائق، طالعت منشورا لأحد الإعلاميين المحسوبين على النظام المصري، وهو يسرد تفاصيل سوداء في انتظار الشعب السوري بعد إسقاط النظام، من سيطرة الإرهابيين وإقصاء المخالفين والدخول في حرب أهلية، وشيوع الفوضى والتخريب، وتجميد العلاقات مع دول خارجية، وإشعال الفتن الطائفية، ونحو ذلك مما أورده الكاتب الذي كان يدعو السوريين إلى الالتفاف حول بشار الأسد منعا للفوضى. سندع هذا الاستشراف الأسود الذي كأنه أمنية للكاتب الموتور، ساقها في قالب تحذير، ونوجه أبصارنا تجاه الواقع الراهن، سندرك حينئذ أنه على الرغم من قيمة التحذير من هذه المخاطر، إلا أن هناك ما يبشر بأن السوريين سوف يجتازون هذه الحواجز نحو سوريا جديدة آمنة موحدة. الملاحظ أن إدارة العمليات العسكرية التي يقودها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، قد دخلت هذه المرحلة بنضج ووعي وقراءة جيدة للواقع السياسي إقليميا وعالميا، فعلى المستوى الخارجي بثت المعارضة رسائل طمأنة لدول الإقليم والمجتمع الدولي، بحماية الأقليات والمواقع الدينية، تمهيدا لمد جسور التفاهم والتعاون بين الإدارة المستقبلية لسوريا والدول الأخرى، تفاديا لعزل سوريا، ولعل الحديث الذي أجرته «سي أن أن» مع الجولاني يؤكد هذا المنحى. وداخليا، عملت المعارضة قبل سقوط النظام على بث الأمان لدى الأقلية العلوية، وقوات النظام التي تضع أسلحتها أو تنشق عن النظام، وأكدت أنها لا تستهدف الطوائف، وأن شأنها مع النظام السوري وحده. كما طمأنت المعارضة ذات الخلفية الإسلامية، الشعب السوري على شكل الحكم المقبل وتناسقه مع تقاليد وطبيعة المنطقة، وبناء المؤسسات، وأنه لن يكون حكما فرديا أو مزاجيا، وإنما حكم مؤسسي في إطار قانوني يحمي الجميع وتكون سوريا في ظله للجميع. كما حرصت على التأكيد أن هيئة تحرير الشام الفصيل الأبرز في المعارضة، ليس هو الهدف في مستقبل سوريا، وإنما المشروع الأكبر هو بناء الدولة.
يؤكد على هذا التوجه التراحمي الاستيعابي للمعارضة، تصريحات الجولاني فور سقوط النظام، التي أعلن فيها أن رئيس حكومة النظام السابق محمد غازي الجلالي، سيشرف على المؤسسات العامة حتى تسليمها، تزامنا مع إعلان الجلالي استعداده للتعاون مع أي قيادة يختارها الشعب للحفاظ على مقدرات ومؤسسات الدولة، بما يعني أن هناك حالة سائدة تبشر بتقديم مصلحة الوطن على أية اعتبارات أخرى، فيما دعا قائد المعارضة جميع الفصائل إلى الامتناع الكامل عن الاقتراب من المؤسسات العامة، كما يمنع إطلاق الرصاص في الهواء.
يبدو أن المعارضة تعي الدرس جيدا وكل الدلائل تشير إلى أنها ستعمل على نقل الثورة إلى المؤسسية. وما يدعو للتفاؤل، أن هيئة تحرير الشام الفصيل الأبرز في المعارضة، نجح في توحيد الفصائل قبل خوض المعركة وإعادة هيكلتها، وخلق حالة من الانضباط لخوضها مع النظام، كما ظهرت المركزية العالية في ضبط أداء القوات، سواء في التعامل مع المدن المحررة، أو التعامل مع الغنائم والاستجابة لأوامر القيادة العليا في الخروج من بعض المدن، بما يجعلنا نقف أمام صيغة جديدة من الائتلاف للفصائل المعارضة. أما قوات قسد، فالصورة ليست قاتمة تماما، إذ أن المعارضة التي تحظى بدعم جماهيري واسع وتؤكد على سوريا موحدة، لديها فرصة سانحة لرفض قيام أي كيانات قائمة على أساس قومي داخل سوريا، وبالتالي لن يكون أمام قسد سوى الانخراط كمكون كردي في سياق التوافق الوطني، إضافة إلى أن هذه القوات لا تحظى بتأييد المكون العربي في الأراضي التي تسيطر عليها، كما أن قسد حال خروجها عن المسار الوطني سوف تصطدم بالنفوذ التركي، الذي تقتضي مصالح أمنه القومي منع قيام دولة كردية في الشمال السوري.
المهمة الواقعة على عاتق المعارضة بعد سقوط النظام، هي تأمين الفترة الانتقالية وحماية المؤسسات والمرافق، ورعاية كتابة دستور يُستفتى عليه الشعب بجميع طوائفه ليحدد من يحكمه، والرعاية الكاملة لهذه الاستحقاقات الانتخابية بنزاهة وشفافية كاملتين، وألا تسمح بأن تدار شؤونها الداخلية على الطاولات الأجنبية، فإذا وصلت سوريا إلى هذا الحد، سيقف العالم وقفة إجلال وتعظيم لهذه التجربة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
^ كاتبة أردنية