حتى نلتقي - إنسانيات

8 آب 2024 | بقلم: يوسف أبوجعفر

ما الذي يحرك الناس؟ ما الذي يجعلها تتغير؟ أهي التجربة؟ أم الزمن، الوقت، العواطف؟ ومن المسؤول في المقام الأول عن التغيير؟

هذه الأسئلة ترافق كل متفحص لأحوال الناس والأمم، وتستطيع أن تضيف عشرات الأسئلة الأخرى التي تدور في نفس الموكب؟ هل التغيير داخلي أو خارجي؟ قسري أم برغبة الناس؟

كل هذه جاءت لتقول هناك شيء ما، وليس من السهل التغاضي عن العنصرالأهم والأول وهو الإنسان، فمن الممكن أن تغيير الكوارث من البشر، من الممكن أن يكون الطقس من يجبر الناس على التغيير ولكن هذا التغيير لا يتعدى القشرة الخارجية، ما يهم هو التغيير الذي تتم فيه النقلة النوعية، فالمسكن في بيت شعر أو قصر كليهما يؤدي مهمة واحدة أساسية، المأوى، في حين أن صاحب بيت الشعر قد يكون حاملًا لأفكار وقدرات خير من صاحب القصر.

في القصر والبيت هناك وظائف أساسية، هناك من يقدم الخدمات وهناك من يرسم الطريق، وليس المقصود بالرسم المعماري بل بالتفكير في حيّز أكبر من العادي، خارطة الحياة والقيم.

إن القييم على هذه في المقام الأول الإنسان وفي العادة هؤلاء نوعين من البشر، الأنبياء والفلاسفة، لأن الأنبياء يأتون برسالة القيم الإلهية ويفسرونها لنا والفلاسفة يفعلون ذلك على ضوء هذه الرسالة أو ما يعتقدونه هم من قيم، في المقام الثاني يأتي أصحاب الخدمات، وهم أقل درجة في رسم معالم الطريق، هم من يستطيعون تطبيق وتقديم الخدمة على ضوء الفلسفة والعقيدة، من هنا يتضح لنا أن العنصر الأهم هو الأول الفكري وليس الخدماتي، والأول هو الذي يعطي الثاني حدود الإبداع والعمل، فالطبيب والمهندس والفيزيائي والمحامي وغيرهم الكثير إذا اشتغلوا بالفلسفة فإنما ذلك فقط يكون في الغالب في إطار أخلاقيات المهنة وليس قيم المجتمع.

من هنا نستطيع أن نفهم أن الشعوب المقهورة لا تتطور وتبقى في الخلف، وليس ذلك مرهون بالمال بقدر ما هو بالفكر، وعندما وُجِد الفكر ارتقت الأمم وتغيرت وربما انحطت وذلك نتيجة قدرة الفلاسفة وأهل الفكر على رسم معالم الطريق.

اليوم لسنا في عصر الإغريق لنتحدث عن الفلسفة، ولكن الحضارة الغربية ما زالت تعتمد على فلاسفة العصر الحديث الذي يخطون المعالم، ومن خلال قوانينهم الأخلاقية المدعومة بالديمقراطية والتسليم بواقع الأمر حيث تعتبر السلطة هي المسؤولة عن رسم المعالم ونرى أن التغيير أصبح متنوعاً بين الفلسفة والرغبة والقانون مع ترك هامش للحرية الشخصية، هذا الهامش محدود ومعروف المعالم.

ولذلك قد تجد الفرق الكبير بين أخلاقيات المجتمع وقدراته الخدماتية، فعدد المهندسين والأطباء والفيزيائيين بحد ذاته لا يعني منظومة أخلاقية تفي بما تريده كل المجتمعات، فالحضارة الغربية حطمت مفهوم العلاقات الزوجية والأسرية ومع ذلك متقدمة خدماتية وذلك لاصطلاح الناس على المنظومة (انهيار الحضارة مسألة أخرى).

نحن في الشرق نعاني مرتين، الأولى حين قدمنا الخدماتية على الفكرية، وفي الأخيرة الحلول والقيم والحريات، وهنا أصبحت الأولى من الأولويات ولكنها لا تستطيع تسيير الدفة ولذلك وجود الأطباء والمهندسين والعلماء لن يغير الحالة الاجتماعية فمنظومة القيم هي من اختصاص أهل الفكر(هذا لا يعني عدم وجود خدماتي يفقه الفكر، ولكن في الغالب كما ذكرت يتعامل مع فلسفة وأخلاقيات المهنة وليس المجتمع).

من هنا نستطيع فهم ما يحدث فينا في الشرق من أزمة فكرية وتستطيع أن تستوعب الصراع الحقيقي المخفي بين الحضارات والمجتمعات بأطيافها المختلفة.

من الممكن أن يكون التغيير قسريًا وأن نسلم حقوقنا لغيرنا كي يديرها وذلك فقط عندما نصطلح على مفهوم السلطة الغائب حاليًا، من هنا ندرك اسرار تخلف الأمم، فحكام يؤمنون بالخدمات ليس حبًا في المجتمع بل لتجهيله والسيطرة عليه، فلا تستغرب عندها كيف تدار الأمور ولماذا هناك صراع إسلامي غربي وقتل في رهط وكفر قاسم وليس في مكان آخر.

وحتى نلتقي، التغيير القسري لا يدوم، واذا دام دمر، والتغيير الذي يأتي مناسبًا للقيم والمبادئ يدوم أكثر من غيره، ولكن التغيير بحاجة إلى من يقوده، علينا التفكير جيدًا في المنظومات التي تسيطر علينا وفهم أن العلوم الإنسانية هي مفتاح الحل لكثير من قضايانا، هذا الموضوع نوعًا ما فلسفي ولكنه سهل الهضم وفيه كثير من النقاش ولكن اكتفي بهذا القدر، دمتم بخير.

<