حتى نلتقي – الثقوب السوداء

2 آب 2024 | بقلم: يوسف أبو جعفر (أبوالطيّب)

الخوارزميات الحديثة في عالم التكنولوجيا تأخذنا بعيدًا، فما أن تشاهد مقطعًا أكثر من مرة أو تزيد من المدة المعدلة للمشاهدة إلا وتعرض عليك الهواتف الذكية عرض مقاطع جديدة مشابهة لسابقتها.

الصيف زمن السماء الخالية من الغيوم، والليالي المقمرة والمظلمة، فالعشاق ومحبو القمر يعشقون البدر وحديثه والسمر، وعشاق المجرات يبحثون الهوينا عن مناطق الهدوء والبعد عن التلوث الضوئي، لقد استهلك البشر كل الإمكانات وكثيرًا ما يفعل ذلك دون الانتباه للتلويث الذي يتركه.

وهكذا وجدتني أدخل عالم المجرات والنجوم والفضاء، وعندما تبدأ بالتعرف تدرك أن الكرة الأرضية ليست حتى ذرة رمل في الصحراء الكبرى، وحجم الكون هو ما لا تستوعبه العقول البشرية.

ورغم كل ذلك فالغامض اكثر من المعروف وهذا بديهي، ولكن العجيب في عالم الفضاء هو الاستدلال دون المشاهدة، يعود ذلك إلى عامل الزمن والوقت، فما نشاهده الآن من ضوء قد يكون حدث قبل عشرات مليارات السنين الضوئية، وليس بالضرورة يحدث في هذه اللحظة.

ومن جميل الاستدلال هو الثقوب السوداء، فهي لا ترى لقوّتها العجيبة على امتصاص وجذب كل شيء حولها بما فيها الضوء، ولأننا نرى فقط الضوء فالسؤال المطروح كيف يشاهد العلماء هذه الثقوب؟ في الحقيقة هم لا يرونها ولكنهم يستدلون عليها من خلال ما يرونه من حولها، يشاهدون ما يحدث، كيف تتحرك النجوم نحو شيء غير معروف، يدركون من الحركة أن هناك ثقبًا يأخذ كل شيء إلى المجهول.

لا أحد يعرف ماذا هنالك ولكنها تكهنات تعتمد على تحليلات منطقية وعلميّة، الثقوب السوداء موجودة في هذا الكون وهي مخيفة ومظلمة وتبتلع كل شيء، ليس لأحد من الخلق القدرة على الصمود في وجهها.

من يحبون عالم الفضاء والفلك والمجرات يستطيعون التوسع في هذا الباب، ولكن ما يهمنا هو الثقوب السوداء في حياتنا اليومية كأمة، كمجتمع، كمدينة، كقرية وكأفراد. في كل هذه التركيبات هناك تقول سوداء، بعضها يكاد يكون ظاهرًا فقط للمقربين والآخر لا يرونه ولكن يستدلون عليه من خلال مراقبة ما يحدث حولنا.

كم هي الثقوب السوداء؟ أعدادها كبيرة جدًا، فقط من يريد مراقبة ما يحدث ويستدل يستطيع أن يرى غير المرئي، والمجال هنا بسيط، ننظر إلى التحركات ونراقب بعين المترقب، نشاهد التصرفات نبتعد قليلات عن التحليلات الشخصية ونردفها فقط بالتحليل العلمي المنطقي والنتيجة سنشاهد بسهولة كل الثقوب السوداء على جميع المستويات.

هناك ثقوب سوداء في العلاقة الشخصية، العامة، السياسية، المحلية، الدولية، الاقتصادية، في كل شيء ولكن ما يهمنا هو ثقوبنا التي تجذب المجتمع نحو الدمار، عندما تكون الثقوب بين الأفراد كثيرة هذا سيؤدي حتما إلى تكون ثقب ضخم كبير، في الغالب ما يدمر الحضارات هو ثقبها الأسود الأخلاقي، وهذا مرده إلى ضياع القيم الإنسانية لدى الأفراد.

والسؤال المهم هو هل نستطيع تحديد الثقوب السوداء؟ نعم وبكل بساطة إذا أردنا ذلك، ولا يمكننا التغاضي عن ذلك، لأننا سنجذب إلى الهاوية إن لم نفعل، فمن يريد مشاهدة الثقوب يمكنه ذلك، ومن يريد أن يتغاضى لن يستطيع الهرب، لأن الثقوب البشرية بعكس الفضائية يمكننا الهرب من جاذبيتها.

من شواهد الثقوب السوداء الفساد بأنواعه، الخلقي، المالي، الاجتماعي، السياسي. لذلك عندما تشاهد أشياء غير منطقية فتأكد أن هناك ثقب في المنطقة.

انظروا حولكم جيدًا، الترف غير المبرر، الضياع العلمي والفكري، عاداتنا التي أصبحت تقليدًا أعمى وفهمًا رديئًا للحضارة الغربية، الركض وراء سراب الشكليات، وبكلمات بسيطة كل تعقيدات الحياة، العنف غير المبرر، القبلية والتعصب فقط لشيء دون الوقوف على الحقيقة، كل هذه ثقوب سوداء عامة، ثقوب العلاقات الأسرية يمكنني الكتابة عنه لشهور، كيف تحولنا من مجتمع يقدس الجماعة إلى الفردانية المطلقة إلا قليلًا، كلها ثقوب سوف تأخذنا نحو المجول المظلم.

وحتى نلتقي، لا أريد تحديد الثقوب السوداء لأحد ولكني أرجو أن نبدأ في مراجعة الأمور فالثقوب كثيرة ومخيفة وإن لم نتنبه لها ستأخذنا في طريها نحو الهاوية.

<