قتلهم الجوع وتقتلنا التُخمة والبَطَر

19 تموز 2024

كان الناس قديمًا إذا خافوا على أنفسهم الهلكة من شدّة الفاقة وقلّة المؤن والمجاعة، خرجوا للغزو فيقتُلون ويُقتَلون في سبيل البحث عن سبل الحياة. وحتّى في هذا الصراع، صراع الوجود، كانت لدى العرب أخلاقيّات لا يتجاوزونها، منها مثلًا أنّهم لا يقتلون من لا يحمل سلاحًا، وحتّى أنّهم لا يقتلون المقاتِل الّذي أصيب وعجز عن الاستمرار في القتال.

هذا ما كان. اليوم لا مجاعة بيننا، الخيرات على الناس كثيرة، كلٌّ قادرٌ على أن يعيش بكرامة إلّا من أبى، لتتحوّل أسباب القتل في مجتمعنا وتتبدّل، وتصبح بين شابّ تخاذل عن العمل وتكاسل، ورأى ترهيب الناس مهمّة بسيطة مربحة، وبين آخرين نمّى فيهم الجشع رغبة جامحة في الاستيلاء على المزيد من الموارد، والسيطرة على مراكز القوّة والنفوذ. أَمِنْ جوعٍ نقتل في هذه الأيّام؟ لا والله، بل من تُخمةٍ وبَطَر.

ذكر الله تعالى الجوع والمجاعة في القرآن الكريم بمعنى "المخمصة"، فحرّم علينا بعض الأكل من الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية من الأنعام والنطيحة، ثمّ قال: "فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، أي أباح الله تعالى ما حرّم وقت المجاعة، دون أن نأثم بأن نأكل فوق حاجتنا.

تعدّى الحال في أيّامنا هذه أكل لحم الماشية من مجاعة، بتنا نأكل لحم بعضنا البعض من تخمة وكماليّات، عيانًا جهارًا نهارًا، حتّى أنّنا نجنف في الأكل ونُسرف، فلا نفرّق بين الكبير والصغير، ولا المريض والمقاتل، ولا الآمن في بيته والمسافر إلى عمله، ولا حتّى النساء والأطفال، والله حسبنا ونعم الوكيل.

قصّ علينا القرآن الكريم حادثة القتل الأولى في تاريخ البشريّة. كان الناس على قلّة العدد فريقَيْن، تمثّلوا فيما قاله هابيل لأخيه قابيل: "لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٍۢ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَٰلَمِينَ"، فريق امتهن القتل، وفريق لا يقتل ولا يرفع يده للقتل مهما حصل. ليس عجزًا ولا ضعفًا وقلّة حيلة، بل مخافة الله ربّ العالمين، فيا فوزهم ويا خسارة من بسط يده للقتل.

وإذا أمعنا النظر في أسباب قتل قابيل لأخيه هابيل، نجد أنّ حمل المنافسة إلى خارج حدود المسموح تؤدّي إلى غيرة وحسد، ثمّ إلى عنف وجريمة. تقبّل الله من هابيل قربانه، ولم يتقبّل من الشقيّ التعيس، ليصدر تهديدًا مباشرًا بالقتل ثمّ تنفيذًا. تقبّل الله من هابيل لطيب عمله، ولم يتقبّل من أخيه لسوء عمله، فإنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلّا طيّبًا، وبدل أن يعود التعيس إلى الله ويغيّر من سلوكيّاته وطباعه، أمعن في الظلم وسوء الخلق، حتّى سوّلت له نفسه قتل أخيه.

وهذا هو حال المجرمين اليوم. هم منّا وفينا، أفعالهم مشينة وتصرّفاتهم غير أخلاقيّة قبل أن تكون غير دينيّة، وبدل أن يستغلّوا باب التوبة المفتوح دائمًا ويدخلوا منه، وَأن "تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ"، نراهم يصرّون على التشبّث بسنّة قابيل، يمعنون في ظلم الناس، يعيثون بيننا فسادًا وترهيبًا، ويبسطون أيديهم كلّ يوم ليقتلوا ويُروّعوا.

أحيانًا لا ينفع التسامح والصفح مع من بيّت النيّة على الإجرام، وقد لا ينفع معه النصح والتذكير بوعيد الله "إِنِّىٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ"، فهذا كلّه لم يمنع الجريمة الأولى حين "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ"، لهذا علينا كأفراد وجماعات أن نأخذ في سبل الحيطة والحذر، فالمجرمون مصرّون على إجرامهم، يفعلون ذلك أمام الناس وعند المسجد وفي البيت والعمل، "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً"، لهذا يجدر بنا عدم التساهل مع أيّ تهديد ولو بالتلميح يصدر من قاتل محتمل!

الحلّ هو في العودة إلى الله. لا حلّ إلّا هذا. لكن حتّى ذلك الحين، علينا أن نهيّئ تربة خصبة تنمو فيها القيم الإسلاميّة، وهذا يحتاج تربية وتنشئة لصغارنا، حتّى يصبحوا أهلًا لمكارم الأخلاق. كيف يكون ذلك؟ حين نتعاون جميعًا، جميعًا دون استثناء، من حركات وجمعيّات ومؤسّسات ومدارس ومساجد. كما يجب بناء خطّة تفصيليّة قابلة للتنفيذ في كلّ بلد وبلد، نضغط من ناحية على الحكم المركزي لتحريك مؤسسات الدولة لمحاربة الجريمة، ولكننا في الوقت ذاته نسعى لحماية أنفسنا من خلال تنظيم مجموعات أو لجان حراسة من قبل الحكم المحلي تسعى لإعادة الأمن في شوارعنا وأحيائنا، مع حاضنة اجتماعية جماهيرية واسعة، ولا ننتظر النجدة من شخصيات مشبوهة ولا من وزير أمن قوميّ لا يرجى منه أي خير لمجتمعنا وأمننا، فكما قال الشافعي عليه رحمة الله: "ما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتوَلَّ أنتَ جميع أمرك".

^الكاتب رئيس الحركة الإسلامية

<