حتى نلتقي – تأمل

28 حزيران 2024

ساعات النهار الطويلة ودرجات الحرارة العالية تُبقي الليل ملاذًا لمن يريد الاستمتاع ببرودة الطقس، وفي الحقيقة أنّ ساعات الليل أصبحت مثقلة بضجيج ورطوبة عاليتين مما أبقى ساعة الفجر الملاذ الأخير، لا يشوب الهدوء سوى ضجيج هنا أو هناك لمن يغادرون في هذه الساعة إلى وجهاتهم المختلفة.

لا أدري كيف تعودنا هذا الضجيج وحياة المدن ولذلك ليس من السهل على من عرف حدود الصحراء وهمسها عند الحديث أن يستطيب هذا الضجيج. في الصحراء ميزة لا توجد في مكان اخر، وهو هدوء الأشياء وهي المكان الأمثل للتأمل، نعم رغم حرارة صيفها إلا أنها تحتوي على عمق في السماء، عمق في الفضاء، عيونك ترحل إلى الأفق وإن قدَّر الله لك يوما صافيًا من الغيوم ستشاهد أفقًا بعيدًا لا يحجب الرؤية فيه شيء، ولذلك عندما يهرب المتأملون نحو الصحراء فإن السر في ذلك هو هذا الأمر.

التأمل يعطيك القدرة على تحديد أهم الأشياء، وهذه في نظري مرهونة بين أنا الحقيقي بدون رتوش والأخرين، في الصحراء حيث الهدوء في إمكانك مجازًا أن تنظر داخل روحك وذلك مشروط طبعًا بأن تتأمل وتتساءل دون خوف، نعم خوف، نحن البشر تعودنا الالتفاف حتى على أنفسنا، ولذلك تجد من يحملون صفة التأمل شخصياتهم قوية حقيقية ليست عبثية، وأكبر مثال على ذلك هم الأنبياء، ويليهم الفلاسفة والرهبان الذي قضوا في أديرتهم يتأملون.

التأمل يحرك التفكير وعندما تبدأ بنفسك فإنك وبدون شك ستتعرف على نفسك على حقيقتك، فقد تكون بين نقيضين في جسد واحد، كأن تكون شاعرًا، عازفًا ذو حسٍ مرهف وفي نظر غيرك أنت عكس ذلك، قد تعتقد أن الدنيا مملوكة لك فتعطيك الصحراء والتأمل جرعة واقعية لتعيدك إلى الأرض كما يقولون.

لماذا هذا الحديث الطويل؟ لأن من لا يجيد الانتظار لا يجيد التأمل والتفكير، وما سيكون أن الأمرين بحاجة إلى عنصر الصبر الذي بدونه لا تستطيع معرفة الحقيقة، الصبر يعينك على فهم كل شيء.

وبما أننا في عصر الضجيج لذلك يحاول الكثيرون محاكاة الصحراء كي يحصلوا على هذه النعمة وهذا ليس بالسهل ولذلك أوجدوا الغرف المظلمة والغرف الهادئة وغيرها من مسميات اليوغا وأنواع الرياضة لكن أقول بصراحة ليس مثل التأمل في الصحراء.

لماذا نحن بحاجة للتأمل؟ لأننا نريد أن نفهم أن نعي وفي الأساس أن نقرر في حياتنا في أعمالنا، في كل شيء ولذلك نحن بحاجة في المقام الأول ماذا عن أنفسنا؟

في كل زمن وكل قرار يحتاج إلى رفع الشوائب عن النفس البشرية، عن ذاتك عن غيرك عُد إلى التأمل الذي سيهديك إلى الحقيقة، ليس ما تريده أنت أو أنا بل ما ترتاح إليه نفسك، ما تطيب به حياتك، إلى كل القرارات الجسام ولكن بشرط أن تعطيها حقها من الوقت والشجاعة.

وبما أن الهدوء المطلق في المدن معدوم، والصحراء لم تعد قريبة منا فمن المفروض أن نجد حلولًا أخرى، لذلك يأتي في المقام الثاني كثير من النشاطات تحت شعار الاستشارة ولنتذكر أنها جميعًا لا تتعلق بك إلا بمن يضعون أمامك الحقائق.

وحتى نلتقي، التأمل ليس فكره، أنه حقيقة يفقدها أغلب الناس في ضجيج الحياة، هذا الضجيج أضاع الأنا الحقيقية ووضع مكانها أخرى، وحتى نستطيع المضي قُدمًا لا بد من التوقف للحظة والتأمل، قد لا نملك أفضل الظروف كالصحراء ولكن نستطيع ذلك في أماكن أخرى كالبحر والغابات وغيرها ولكن يشترط فيها الحقيقة لا الرتوش، وفيها نحتاج إلى الصمت والتفكير والتساؤل حول كل شيء نحن بصدده.

<