حتى نلتقي – ذاكرة

24 أيار 2024 | بقلم: يوسف أبوجعفر (أبوالطيّب)

بالأمس قمت بتبديل هاتفي الخلوي، كان من السهل أن استلقي جانبًا وأترك للهاتف القديم والجديد منصة الحديث بينهما بعد التعارف الأولي لينطلقا في ترتيب المهمة، ثم ليتناغما على مدى ساعتين ونيف نقل المعلومات، ما إن انتهت المهمة حتى شعرت بالسعادة، فالهاتف القديم لم تنته صلاحيته بعد إلا أنه أصبح يعاني من هلوسات الزمن، فقد زادت أحماله وبدأ بالشكوى متمثلة حينًا بالبطء الشديد وحينًا أخر يتوقف ويغلق جميع التطبيقات ويدخل في سبات لدقائق معدودة، المشكلة أن هذه اللحظة قد تبدو دهرًا، وفي كل مرة يقرر العودة إلى الحياة ما يقلقني هو المعلومات الذي تحتويه، فأنا كغيري لا أحتفظ بالمعلومات المكتوبة.

المهم أعلن الهاتف الجديد أنه جاهز للعمل سوى من بعض التصريحات كي يتأكد أن الذي أمامه الان لا ينتحل شخصي أو معلوماتي، في النهاية شعرت بارتياح فقد عاد كل شيء إلى موقعه، ولم تختف أيً من المعلومات، ولكن لحظة من فضلكم، كان من الممكن ذلك ولذلك كنت حذرًا ألّا استغني عن القديم إلا بعد ساعات أيقنت فيها بكل سرور أن الأمر على ما يرام.

عندما أدركت أني أجلس في المنطقة الأمنة وأن كل معلوماتي معي سعدت، فهاتفي يتذكر أدق التفاصيل التي طلبت منه أن يتذكرها، صوري، مقالاتي وخواطري، خربشاتي، ما تصفحته، ذكرياتي، وما مضى من تعاملي مع الهاتف، والحقيقة أن كل شيء هنا وفي الظاهر أني أتحكم فيه، ما زالت أصابعي تجري بين الأحرف بفرح، فقد كان الخوف يعتريني لو حدث مكروه، كان من الممكن أن تختفي معي هذه المعلومات، للحظة كان من الممكن حدوث ذلك، في عصرنا هذا وكأن اختفاء المعلومات هو الاختفاء الشخصي، لا تملك لحظات السعادة من مولد الأبناء، ولا التخرج من الجماعة كل شيء.

ولكن لحظة من المؤكد أن كل هذه المعلومات في الغالب لا تسكن هاتفًا بهذا الحجم، ومن المنطقي أنها في الغيوم "الكلاود" ولكن من يملك هذا الكلاود؟ من يقرر أن يعطيك إذنًا بالمرور وتصفح حياتك مصورة موثقة بأدق التفاصيل؟ أليس من الغريب ومن الممكن أن يقرر أصحاب المواقع المختلفة حجب حياتك وما مضى منها، ذكرياتك وغيرها، أصبح العالم رقميًا بكل المعاني، سنقترب من مرحلة لا نملك فيها محسوسًا سوى بعض الأشياء وكل شيء يتحول إلى أشياء تتحرك أمام أعيننا، دون أن ندرك معنى الخطر.

من الممكن في عالم حروب السايبر أن تهاجم هذه المواقع ويمسح ما فيها، الدول قد تستولى ليس على المعلومات بل تدمرها لتمسح تاريخ الناس وكل المعلومات البشرية، لذلك نحن نشعر بالأمن المزيف، الثورة الرقمية حالة فريدة لو أدركنا خطورتها علينا كأشخاص سندرك حجمها كمجتمع، فسهولة حصولي على ذكرياتي كان من السهل أيضًا أن تختفي.

شيء وحيد لن يحصلوا عليه في جميع الأحوال وهو الذكريات التي علقت في الذهن ولم تجتمع ربما في صورة أو كتابة، هذا الذي في ذاكرتنا الذي تسكنه المشاعر، فكل صور العالم لا تصف لحظة إنجاز أو فرح، أو حُب.

ما أخشاه فعلًا هو هذه الثورة الرقمية وسيطرتها على كل شيء وقدرتها على محو كل شيء، زد على ذلك قدرتها مع كل الذكاء الاصطناعي سوف يستطيع البعض زرع ما يشاء من كذب أو تزييف وكأنه الحقيقة، لا أملك الإجابة حول ماذا كان سيحدث لي لو اختفى هذا الكم الهائل من المعلومات.

وحتى نلتقي، سعيد أنا أني ما زلت امتلك قسم من حياتي، وسعادتي مشوبة بالخوف فإنا في الحقيقة امتلك فقط ما في ذاكرتي وليس في ذاكرة الكلاود، وذاكرتي تملك الصورة والصوت وتمتلك الأحاسيس والمشاعر، وفوق ذلك كله الشوق الذي لا يمكن وصفه لمن نحب، للغائب، للمسافر لمن غادر الدنيا، الشوق الذي يأبى إلا أن يبقى مشتعلًا في صدورنا لا يعرف الزمن، يبقى حارسًا على ذكرياتنا وهو خير من كل برامج الحماية المختلفة.

^الكاتب هو نائب رئيس بلدية رهط عن الحركة الإسلامية