حتى نلتقي - وطن في حقيبة
20 أيار 2024 | بقلم: يوسف أبوجعفر
سؤال يرافقني منذ مدة طويلة، يومها توقفت أمام أحد الأصدقاء وقلت له كم مضى من الزمن وأنت هنا في هذه البلاد؟ وبدون تردد ذكر لي قرابة العشرين عامًا، ثم بدأ يصحح لي الإجابة عندما سألته عن العام الذي جاء فيه إلى الولايات المتحدة، فاذا به يقول يا إلهي لقد تجاوزت الثلاثين سنة ونيف، لقد ضاع العمر، لقد جئت في العشرينات من عمري وها أنا لا أدري كيف انقضت هذه الأعوام.
كان من الواضح أن سؤالي حرك في داخله حزن فهو أعزب رغم كل الظروف المساعدة فحالته المادية جيده لم يكُ مستقرًا.. لقد كان بيته حقيبة سفر أو قل هكذا تخيلته، يريد العودة إلى الوطن، إلى كل شيء في الشرق، لقد تجاذبنا الحديث في ظهيرة يوم في واشنطن العاصمة عندما قال، اعتقدت أني سأعود غدًا ولذلك لم اغرس لي شيء هنا، اشعر أن هذه البلاد ليست لي، أنا هنا بصفة مؤقتة ولكن بين ليلة وضحاها انقضت الأعوام.
لم يشعر بالانتماء للبلد الذي يعيش فيه وبكل صراحة البلدُ يعيش في صديقي وليس العكس، إنه ليس تلاعب بالكلمات ولكنها الحقيقة، فصاحبنا يريد جودة الحياة الامريكية، والحرية الامريكية وكل شيء أمريكي لكنه لا يحب أمريكا، وعندما تسأل بقوة لماذا يجيبك ببساطة سياسة أمريكا الخارجية هي ما يخيفني ويكرِّهني في هذه البلاد، ولكنك تحبها وتحفظ قوانينها وتمتلك جنسيتها، وتعيش في كل زاوية منها وهي فيك بالمثل.
ما الذي يعطيك الإحساس أن هذه لك؟ هذه بلدي، ولا أحاول أن أقول وطني، ما هو الشيء الذي يدل على صدق هذا الإحساس بالانتماء حتى يردف أسمك بصفة البلد، فيقال الرهطاوي، التلاوي، النصراوي، الطيباوي، الحيفاوي، أهو المدينة كعنوان لشخصك؟ هل هو حبنا للبلد أو لخصلة في البلد؟ وربما يكون العكس صحيحاً بمعنى شيء سلبي فينا يشير إلى حالنا.
ما الذي يجعلنا نهتم بشيء يتعدى حالتنا الخاصة وأمورنا الذاتية؟ منذ متى تغلغلت الفردانية فينا فلم يعد يهمنا إلا أنا؟ (حتى الطوشة تكون من أجل أنا) ولا أتكلم عن الصالح العام البعيد التأثير بل القريب جدًا، منذ متى بدأ الخوف يسكن فينا؟ ليس خوفاً بمعناه العادي بل تحويل المسؤولية على الآخرين، منذ متى أصبح أضعف الإيمان هو كل الإيمان؟ فنحن نشكو بالقلب ولا نرى الظالم ولا المتعدي، ولا السارق ولا المخرب ولا الغشاش ولا الخائن وفوق ذلك كله نأبى أن نقول أي شيء باللسان.
ليس عبثًا أن صديقي العربي يعيش عالمين، عالم أمريكا وعالم وطنه الشرقي، وهذا ينطبق علينا في الشرق، فنحن نحب الغرب ونحلم بالغرب ولكننا نعيش في الشرق، الفرق الوحيد هو أننا لا نطارد أحلامنا، فمن غير الطبيعي أن أترك الحلم يتحقق لمجرد كونه حلم، لا بدَّ أن تستيقظ من الحلم وتعمل لتحقيق الحلم.
فالأمريكي قرر منذ زمن بعيد أن تقول الحق قضية ليست مربوطة بالإيمان بل بالقانون، ونحن نعتبرها من الإيمان ولكننا اخترنا أضعف الايمان وليست الدرجة التي تليها وهي اللسان، لماذا أقول ذلك؟ لأن أي شخص تسأله عن شيء خارج حدود الأنا لا يعرف ولو رأى بأم عينيه سارق، قاتل، منتهك لحقوق الاخرين، متعدٍ على الصالح العام، ولو حتى من يأتي بالقاذورات من خارج البلد إلى داخلها ومخلفات البناء، من يقص الشارع العام لمصلحة شخصية، لا أحد يرى ولا يسمع ولا ينطق، نحن نحب أضعف الايمان لخوفنا الذي يسكن فينا.
ولذلك نحن نعشق أمريكا، ونعشق الحضارة الغربية ففيها نرى الحلم ولم ندرِ أن لهذا الحلم ثمن يبدأ بأن نستيقظ قبل فوات الأوان.
ليس من السهل مواجهة الحقيقة، لأنها تخرجنا من واقع غرسته فينا العائلية والحزبية والوطنية وكل الكلمات الكبيرة على عدم الانتماء، وذلك نظرًا لحالتنا السياسية المعقدة نوعًا ما، فغياب السلطة المركزية وسياسة فرق تسد تسكن في داخلنا وليس فقط في الحكم المركزي، لذلك الانتماء عندنا بحاجة لمراجعة، وفي أبسط الآراء لن يكون هناك انتماء دون صوت والصوت يحتاج إلى لسان وليس ورقة في الصندوق.
وحتى نلتقي، أعرف أن البعض لا يوافقني وربما كثيرون، ولكني أقول بصراحة أن أقوى الايمان هو أن يرى منك الناس الانتماء، ألسنا نحن جميعًا من يذكر الآية الكريمة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" فالعمل أعلى مراتب الايمان وليس أضعفها، ونوع العمل الذي فيه الخير هو أعلى المراتب وأسواء الأعمال ضد المجتمع هي أحط المراتب في الايمان.
وفي النهاية من السهل الجلوس على أريكة مريحة والطعن ولكن من تعوّد النوم سيبقى يعيش الحلم دون الواقع.
ما زال صديقي في أمريكا، يحبها يزور أمه ووالديه في الخليج، ربما تزوج لا أدري ولكني أعرف أنه يحب وطنه لكن حياته في أمريكا تقول أنه يحب أمريكا أكثر وما زال وطنه يسكن الحقيبة على رأي محمود درويش، فعندما يشتاق لرائحة الشرق يأتي في الصيف ثم يرحل دون وداع أقرب الأصدقاء.
^الكاتب هو نائب رئيس بلدية رهط عن الحركة الإسلامية