هروب اليهود العرب من أصولهم لم تسعفهم

30.3.24 | بقلم: محمد السيد

هجرةُ اليهود العرب من المشرق والمغرب العربي الى فلسطين بعد الإعلان عن قيام وطنٍ “قومي” لليهود في فلسطين وفق وعد بلفور ، وترجمته على الأرض من قِبَلِ اليهود بدعمِ واعترافِ عصبةِ الأمم وفي مقدمتها الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية ، وهزيمةِ العربِ ونكبة فلسطين ، كانت تلك التي قَدِمَت من الدول العربية هجرةً كبيرة ، قسمٌ منها باتفاقات بين العصابات الصهيونيةِ وبعض الأنظمةِ العربية ، وقسمٌ كردةِ فعلٍ احتجاجيةٍ على احتلال فلسطين وطرد أهلها ، حيث جرت عملياتُ طردٍ لليهود تم تضخيم هذه العمليات من قِبَلِ اسرائيل لاحقاً خاصةً في العراق، وقسمٌ آخر من خلال عمليات تهريبٍ لهم عبرَ حدودِ دولٍ مجاورة ، ولعبت في ذلك بعض الأنظمة الأفريقيةِ دوراً ، وكذلك النظام الإيراني ، خاصةً في ما يتعلق بالهجرةِ من العراق وفق ما جاء في شهادات قياداتٍ بارزة لليهود العراقيين الذين حاولوا دائماً إبراز العنف ضد اليهود الذي أطلقوا عليه اسم “الفرهود”.

اليهود العرب الذين وصلوا الى فلسطين كان معظمهم من المغرب والعراق بالإضافةِ الى مهاجرينَ من اليمن وتونس ومصر وايران، وأعدادٌ أقل من دولٍ اخرى. ومع وصولهم تم وضعهم في مخيماتٍ تفتقر الى أدنى الخدمات لسنواتٍ طويلة ، ولم تعتمد عليهم العصابات الصهيونيةِ وتنظيمهم في صفوفِها لخلفيتهم العربية ، وظلت النظرة الإستعلائية حيالهم ترافقهم حتى يومنا هذا ، فمنذ قيام اسرائيل وحتى اليوم لم يتقلد أي يهوديٍ عربي منصب رئيس الوزراء في اسرائيل، ويبدو أن الوضع سيبقى على حاله ، كذلك المناصب التي تتعلقُ بالأمن خاصةً الحساسة منها تبقى محجوبةً عن اليهود العرب ، مع فتح كل الأبواب لهم كجنودٍ وضباط وسياسيين ورؤساء أحزاب وإداراتٍ رفيعة مختلفة بما فيها عسكرية وسياسية ، بعيداً عن اتخاذ القرارات “المصيريةِ” للدولة. ورغم هذا الإجحافِ بحقهم إلا أنهم وقفوا سياسياً الى جانبِ الأحزاب الصهيونية الكبيرة الحاكمة وصفقوا لزعمائهم في مشهدٍ يكرس خلفيتهم العربية ، وظل ذلك يرافقهم حتى أواسط السبعينات عندما حدث التحول الأسوأ ، فبدلاً من استمرارِ التصفيق للأحزاب التي بنت إسرائيل وآخرها “المعراخ” تمكن زعيم الليكود من اللعب على وترِ “الظلم” الذي لحق باليهود العرب وفتح لهم أبواب حزبهِ كمصوتين بالدرجةِ الأولى ، من خلال مهاجمةِ “المعراخ” بشدة على الإجحاف الذي لحق بهم وحرك مشاعرهم وحرضهم ضد ذلك الحزب في خطاباته الشهيرة التي جعلت المَدَ منهم على عكسِ كل التوقعات ، فساهموا لأولِ مرة في إسقاط الأحزاب التي أسست اسرائيل واحتلت الأراضي العربية ، وأنجحت اليمين الذي ظل في سُدةِ الحكمِ حتى اليوم تقريباً.

تقلد اليهود العرب في الأحزاب اليمينيةِ وخاصةً الليكود مناصبَ رفيعةٍ بنظرهم ‘أهمها ألقاب وزراء، لكنهم لم يحاولوا مجردَ الحديث عن الترشح لرئاسةِ الوزراء، ومن يجرؤ على ذلك سيجدُ نفسهُ خارج المعادلة ، إما بالتحييد أو التهميش وإما بالاتهام وصولاً الى السجن ولنا أمثلةٌ في اسحق مردخاي وموشي كتساف وسلفان شالوم ودافيد ليفي وغيرهم من الذين حاولوا التطلع الى الأعلى الممنوع فوجدوا انفسهم في القاع. من هنا عرف هؤلاء أن لا مكان لهم في القمة وتساوقوا مع ذلك، ومن أجل التغطيةِ على الدونيةِ نشِطوا بشكلٍ كبير في أحزابهم اليمينيةِ وقدّسوا القائد والتفوا حوله ورفعوا رايةَ اليمين المتطرف في نهجٍ مفروض ذاتياً سيرافقهم دائماً وهو شِدةِ الولاء لإثباتِ الإنتماء ، ولنا في ميري ريغف ودافيد أمسلم وبيتون وغيرهم من المتجندين للإستماتة من أجل نتنياهو أمثلةً حاضرة هذه الأيام، وهذا ما ينسحبُ أيضاً على يهود الفلاشا القادمينَ من اثيوبيا والذين يصوت معظمهم لليمين، وآخر مثالٍ على دونيتهم انسحاب أحدُ قادتهم من حزب “كحول لافان” المُنحَل وانضمامه لليكود الأكثر تطرفاً ضد العرب. في الإنتخابات الأخيرة التي تقدم فيها اليمين وكان الليكود صاحبَ المقاعد الأكثر في الكنيست كان الفضلُ كله لليهود العرب الذين خرجوا بكثافة استجابةً لنداءات نتنياهو الذي طلب منهم التحرك لمنع تشكيلِ حكومةِ مركزٍ مع الأحزاب العربية. تحركت عندهم النزعة الإبتذالية بالدرجة الأولى والتي يكمن فيها إظهار الموالاة الذاتية ومن أجل اكتمالها لا بد أن تستند على الموقف الذي ينم عن الكراهية للعرب حتى ينزعون عنهم هذه الصفة التي ظلت تلاحقهم بفعل ممارساتهم وتقاليدهم الى جانب تذكيرهم بها دائماً من اخوانهم اليهود الإشكناز إن صح التعبير. اليهود العرب في الغرف المغلقة يشدهم الحنين لبلاد العرب التي جاؤوا منها، وتلمس في الحوار معهم كعربي المجاملة والتقرب ، لكنهم سرعان ما ينقلبون في حضرةِ اليهود الاشكناز. ربما كانت هذه المواقف سبباً في التحفظ على منحهم مواقع متقدمة رغم ولادةِ جيلٍ جديد يسعى لينزع عنه صفة اليهود العرب التي تلاحقهم كاللعنةِ كما يرى ذلك الجيل الجديد ويذكرهم بها اخوانهم الاشكناز عند الضرورة. مرحلةُ مَلِكَهُم المُفدى بنيامين نتنياهو تأتي على نهايتها، وستبدأُ مرحلةِ المقدس الجديد الذي سيلتفون حوله مرددين مات الملك عاش الملك.

رغم إجحافهم تمسك اليهود العرب باليمين المتطرف

دأب اليهود العرب على التموضع حزبياً دائماً مع الأقوى والمتشدد حِيال العرب، أولاً لأن ثقافتهم عربية تأثرت بالانسياق خلف القائد، ثانياً لدرءِ اتهامٍ محتملٍ لهم بالتساوق مع العرب، هنا ناصبوا العداء السياسي وغيرهِ للعرب وابتعدوا عنهم كثيرا، خاصةً أمام الرأي العام.

المُجاهرةُ بالعداءِ للعرب دفعتهم الى الإحجام عن ذِكرِ أصولهم العربية، فيغضبون عندما تناديهم، مغربي أو عراقي أو يمني علماً انهم جاؤوا من هناك هم أو آبائهم إلا أنهم لا يعتبرون هذه التسمية بطاقةَ دخولٍ الى المجتمع الإسرائيلي، زرت يوماً متحفاً لليهود العراقيين اسمه "تراث يهود بابل" في اور يهودا قرب تل ابيب مع رئيس لجنة التواصل الفلسطينية مع المجتمع الإسرائيلي محمد المدني، وكان الحضور كلهم من الذين تجاوزَ أصغرهم الثمانين، فسألهم المدني عن الشباب، فكان الرد جواباً قاطعاً لكلِ من يسعى للتقرب منهم "الشباب صاروا اسرائيليين".

بمعنى آخر نحن الجيل القديم نحِنُ الى الماضي والأصول لأننا عشناها ، أما الشباب فيمنعهم التمسك بالأصول العراقية من الانطلاق في المجتمع الإسرائيلي والتحليق في فضائهِ الغربي. وينسحب ذلك على كافةِ اليهود العرب الذين ينخرطون في الأحزاب والحركات لكنهم لم يقودوها حتى الآن، وإن حصل ذلك فسيكونُ موسمياً أو قصير الأمد، وسيجدُ القائمون عليها انفسهم خارج المعادلة، كما حدث مع الحزب الذي أقامه اسحق مردخاي الذي اختفى هو وحزبه من المشهد السياسي، وحزب دافيد ليفي الذي تلاشى هو ورئيسه وتحاول ابنته السيرَ على دربهِ لكنها تفشلُ وتُجبرُ على العودة للسباحةِ مع التيار . ولنا في شخصياتٍ كثيرةٍ الأمثلةَ على محاولاتها وتقدمها الى أن تُشارِفَ على الاقتراب تهوي الى القاع. لن نخوضَ في الحديثِ عن رئاسة الوزراء في اسرائيل فهذا المنصب هو الأعلى والذي يقفُ على رأسه تُفتَحُ له كل الأبواب التي تقود الى أدق القضايا حساسيةً كبرامج الموساد والشاباك وغيرها من الأجهزةِ الأمنية، وهذا يؤكد أن ثقةَ الدولة العميقة باليهود العرب ضعيفة لذا من الصعب أن يصل أحدٌ منهم الى هذا المنصب الحساس، وبالمقابل تم تعويضهم عن ذلك بمناصبَ فخريةٍ أبرزها رئاسة الدولة ، وهو منصبٌ لا تأثير له في رسم السياسات ، ومع ذلك لم يتقلدهُ يهوديٌ عربي، لكن وصل اليه يهودي إيراني "موشي كتساف" لكنه سرعان ما واجه تهماً خطيرةً قادتهُ الى السجن لسنوات.

حاول اليهودي العراقي بنيامين بن اليعيزر التنافسَ على هذا المنصب إلا أنه وجد نفسهُ أمام قضايا كانت ستقودهُ حتماً الى السجن، لولا وفاتهِ قبل ذلك. وتجرأ اليهودي المغربي دافيد ليفي وحاول التجربة ليتقلدَ هذا المنصب، إلا أن الغموضَ لف محاولته وصَمتَ فجأةً صمت القبور. مُعظم اليهود العرب إذاً في يمين الخارطة السياسية في اسرائيل، لكن المُلفت أن يهود اليمن هم الأكثرُ تطرفاً ، ربما بسبب ملامحهم العربية التي يحاولون إخفائها ، حيث يحاولون الولوج في المجتمع بالمواقف المتشددةِ حيال العرب وباعتمارِ القبعةِ الدينيةِ الصغيرة لتميزهم عن العرب. وكلُ من تابع ذلك اليهودي اليمني الذي لبِسَ قميصاً كُتِبَ عليه "أنا لستُ عربياً" وتجول به في الشوارع يُدرِكُ كم هؤلاء يعانون من التمييز رغم مبالغتهم في معاداةِ العرب. لم يتبوأ أحدٌ منهم منصباً رفيعاً إلا قلة مثل يسرائيل كيسار الذي شغِلَ منصب سكرتير عام نقابات العمال العامة "الهستدروت" ، وحصل بعضهم على وزارات مثل ابيقدور كهلاني، لكن لم يتمكنوا من وصول القمة إن لم نقُل أنهم حتى لم يحاولوا . يهود اليمن الذين تحركوا مطالبين بالكشف عن أطفالهم الذين اختفوا في السنوات الأولى لوصولهم الى اسرائيل وتم استخدامهم لتجاربَ طبيةٍ، تم إسكاتهم وتناست هذه القضية إلا أنها بقيت حاضرة عند بعضهم ، ومن تحرك منهم لإبرازها من جديد يصمتُ تماماً وتتناسى قضيتهم من جديد.

وربما كانت حادثة إغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين أكبر شاهدٍ على الدونيةِ التي يعيشها يهود اليمن، وعلى محاولاتهم لإثبات الولاء. مقتلُ رابين على يدِ اليهودي العربي اليمني يقئال عمير كانت مفاجأةً للرأي العام الإسرائيلي، لكنها لم تكن كذلك بالنسبةِ لبعضِ صناع القرار وربما حتى أجهزةٍ أمنيةٍ ، اكتنفَ الغموضُ فشلها في حمايةِ رأس الهرم في اسرائيل.

^الكاتب هو إعلامي وناشط سياسي