هدم مفاهيم الصراع السياسية في المجتمع الإسرائيلي | بقلم: أ.د. يونتنان مندل
نشر في 1 فبراير 2024
إلى جانب الدمار والقتل الفظيعَيْن في قطاع غزّة، فإنّ ما يجري داخل إسرائيل والمجتمع الإسرائيليّ يشير إلى واقع يبعث على اليأس، ولكنّه قد يطرح فرصة أيضًا. هذه هي الحال؛ لأنّه على مدى الأشهر الثلاثة الماضية تمّ هدم العديد من مفاهيم الصراع السياسيّة في المجتمع الإسرائيليّ. يبدو أنّ إسرائيل لا تزال تحت صدمة أحداث 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وهذا من الممكن أن يفسّر هجومها وعدم قدرتها على رؤية المعاناة الفلسطينيّة. خلال يوم واحد – اليوم الأكثر دمويّة في تاريخ إسرائيل – قتل أكثر من 1300 إسرائيليّ بينهم أكثر من 1000 مدنيّ و300 جنديّ، وقد خطف نحو 240 شخصًا إلى غزّة. لا تزال إسرائيل تعيش ذلك اليوم، ولكن أيضًا لا تستطيع حكومة إسرائيل أن تستوعب هذه الحوادث ناهيك عن العواقب الكاملة لها.
كما علينا أن نذكر أنّ إسرائيل لا تستطيع فهم ما يجب فعله في اليوم التالي للحرب. تتصرّف إسرائيل بشكل أساسيّ انطلاقًا من مزيج من الغضب والانتقام على إذلال حوادث 7 أكتوبر. من ناحية، تريد الحكومة الإسرائيليّة رؤية غزّة مدمّرة وحركة حماس راكعة على ركبتيها، ومن ناحية أخرى، ترغب في إعادة المخطوفين قبل فوات الأوان. بمعنى آخر – إسرائيل تهاجم وتدمّر وتقتل وتقصف، ولكن تجد صعوبة في رؤية ما وراء الأفق.
باعتقادي، وسواء اعترف الإسرائيليون جميعهم بذلك أم لا، فإنّ المفاهيم الأساسيّة الّتي هُدِمت في 7 أكتوبر هي سياسيّة بالأصل. وفي إطار هذا الانهيار الباراديغميّ ثبت أنّ الرغبة الإسرائيليّة في تحقيق أمن حقيقيّ لمواطني الدولة بالتوازي مع الحصار الكامل المفروض على قطاع غزّة هو أمر مستحيل. كما ثبت أنّ إضعاف السلطة الفلسطينيّة وإهانتها وتحويلها إلى "بلديّة رام اللّه" هو نهج قصير النظر لا يترك محلًّا لقيادة فلسطينيّة بديلة لحركة حماس، ناهيك عن خلق أيّ أفق ديمقراطيّ وحيويّ في الشارع الفلسطينيّ. كما ثبت أنّ الانقسام بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة هو ليس أكثر من تفكير إسرائيليّ محدود لتجميد أيّ تطوّر سياسيّ إسرائيليّ- فلسطينيّ. كذلك ثبت أنّ إبقاء السجناء الفلسطينيّين في سجون إسرائيل بدون التفكير في إطلاق سراحهم كجزء من الخطوات لتعزيز حلّ سياسيّ وليس فقط كردّ فعل على خطف مواطنيها هو أمر غبيّ من شأنه أن يؤدّي فقط إلى تشجيع عمليّات الاختطاف باعتبارها السبيل الوحيد لإطلاق سراحهم. ولقد ثبت أنّ الانسحاب من قطاع غزّة في عام 2005 بشكل أحاديّ ومن دون اتّفاق أو تفكير حيال اليوم التالي، كان عملًا صنع فراغًا مليئًا بالعنف، بعيدًا كلّ البعد عن أيّ حوار وسلام أو حتّى عن الحفاظ على حلم إنسانيّ لإنهاء الصراع. علاوة على ذلك، ثبت أنّ الأردنّ ومصر والسودان ورواندا وتشاد وكندا والمجتمع الدوليّ بأكمله لن يستوعبوا أبدًا مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيّين من غزّة ليعيدوا توطينهم، كما يحلم كثير من الإسرائيليّين. وثبت أيضًا أنّ الحلول الأمنيّة المتطوّرة تقنيًّا ليست كافية لتحقيق الأمن.
كما أنّه في إطار المفاهيم المنهارة، ثبت أنّ الهروب الإسرائيليّ من المفاوضات المباشرة، والهروب من التعامل بجدّيّة مع القضيّة الفلسطينيّة، لا يقود إلى تحقيق الأمن للإسرائيليّين، ناهيك عن السلام والهدوء للشعبين. وثبت أنّ الحديث في الساحة الإسرائيليّة- الفلسطينيّة عن الانفصال – "أنتم هناك ونحن هنا" – من دون الحديث عن العلاقات المتبادلة هو أمر خطر للغاية. وبخصوص دول المنطقة، ثبت أنّ التصريحات الكلاميّة الّتي أطلقتها الأنظمة العربيّة، والّتي بحسبها اتّفاقيّات تطبيعها مع إسرائيل ستؤثّر أيضًا بشكل إيجابيّ على الفلسطينيّين هي خاطئة إلى حدّ كبير؛ لأنّ الوضع الفلسطينيّ اليوم – بعد 45 عامًا من الاتّفاق مع مصر، و29 عامًا منذ الاتّفاق مع الأردنّ، وبعد 3 أعوام من الاتّفاق مع الإمارات والمغرب والبحرين – هو أسوأ وضع في تاريخ الشعب الفلسطينيّ – مع دمار شامل، وقتل أكثر من 25000 شخص في غزّة و300 في الضفّة، واحتلال مستمرّ، ولا إشارة واحدة إلى نهايتها.
ليس الجميع في مجتمعي في إسرائيل على استعداد للاعتراف بذلك، ولا يزال الكثيرون في مرحلة الصدمة من هجوم 7 أكتوبر الّذي شملت أحداثه قتل مدنيّين لم يسبق له مثيل في تاريخ المجتمع. بالنسبة لكثيرين من الإسرائيليّين تعتبر الأحداث دعوة للـ"استيقاظ" بأنّه لن يكون هناك حلّ للصراع وللكراهية وكأنّ الفترة الّتي سبقت 7 أكتوبر كانت مليئة بالأمل أو المفاوضات أو السلام أو العدالة. ولكنّ مقصدي ووجهة نظري هنا هي أنّنا نقف أمام مفترق تاريخيّ غير مسبوق؛ لأنّ الشيء الوحيد المشترك للإسرائيليّين – سواء الّذين يرغبون في الاعتراف بقصر النظر السياسيّ الإسرائيليّ التاريخيّ، وأولئك الّذين يريدون رؤية غزّة مدمّرة وحماس مفكّكة – هو أنّ كليهما اعترفا بأنّ الوضع الراهن الّذي حدث في إسرائيل وفلسطين منذ انهيار اتّفاقيّات أوسلو وكامب ديفيد وانتفاضة الأقصى وحتّى 7 أكتوبر 2023 – الوضع الراهن الّذي نعرفه خلال 30 عامًا – لن يبقى. وهذا هو الأمر الحاسم الّذي حدث برأيي: الأطراف السياسيّة في إسرائيل – وعلاوة على الرئيس الأميركيّ بايدن الّذي قال إنّ "لا عودة للوضع الّذي كان قائمًا في 6 أكتوبر" – تعهّدت غداة الحرب، بأنّه يجب أن يتغيّر الوضع في إسرائيل وفلسطين بشكل جذريّ. وهذه فرصة، كما أعتقد.
هذه رؤية يجب أن تصف اللحظة الّتي نعيشها، اللحظة الّتي نشأت من القتل الرهيب في إسرائيل، ومشاعر الإحباط واليأس عند الطرفين، ومن الدمار والقتل الفظيعين في غزّة، والخسائر في الأرواح، ومن الصور الّتي يشاهدها مئات الملايين من العرب على شاشات التلفاز كلّ يوم خلال الشهور الثلاثة الماضية. إنّها لحظة ينبغي اغتنامها، ليس من منطلق عدم احترام القتلى، بل على العكس تمامًا من ذلك، احترامًا لحياة أولئك الّذين ما زالوا بيننا، والّذين يحقّ لهم أن يعيشوا بحرّيّة وأمان ودون خوف من تعرّضهم للخطر. يستحقّ الإسرائيليّون ألّا يتمّ قتلهم مع أبناء عائلاتهم في بيوتهم، أو العيش تحت الرشقات الصاروخيّة، ويستحقّ الفلسطينيّون أن يعيشوا بحرّيّة وكرامة وأمان واستقلال وألّا يتمّ دفنهم في منازلهم تحت الركام.
بكلمات أخرى، ما أريد قوله هو ليس فقط أن قتل البشر في فلسطين وإسرائيل يجب أن يتوقّف، بل يجب علينا أن نتأكّد من أنّ أولئك الّذين يعيشون، سوف يعيشون حقًّا. الإسرائيليّون والفلسطينيّون يعرفون جيّدًا أنّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة. ولذلك على دول الشرق الأوسط أن تغتنم هذه اللحظة أيضًا. إسرائيل مرعوبة باعتبارها الدولة اليهوديّة الوحيدة في المنطقة، وتخاف على أمنها وحياة مواطنيها. كما تنظر إسرائيل باستشراق إلى دول الشرق الأوسط، وتقسّمها إلى دول "جيّدة" و"سيّئة"، أو إلى دول "معتدلة" و"متطرّفة". ولكنّ هذا تصوّر ضعيف لا يلتقط الإمكانيّات والفرص الّتي تمكّن من عمل سياسيّ – في هذا الموضوع بالذات – بالشرق الأوسط.
على الرغم من مشاكلها العديدة الداخليّة والخارجيّة، وعلى الرغم من معاناة شعوبها، فإنّ دول الشرق الأوسط قادرة على ضمان حلّ مستدام للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ؛ لأنّها الجارات المباشرة الوحيدة لإسرائيل – ومن ثمّ علينا أن ننظر إليها على أنّها تستطيع أن تكون نموذجًا للعيش كجيران أو للقتال كمنافسين بالمعركة. يمكن لهذه الدول – عبر دفع خطّة سلام جديدة أو استضافة مفاوضات مباشرة الّتي أولى مراحلها تكون صفقة تبادل الأسرى أو بدعمها قيادة فلسطينيّة جديدة وجريئة تمثّل المصالح الفلسطينيّة – أن تفسّر لإسرائيل أنّ التعامل مع الملفّات المركزيّة في القضيّة الفلسطينيّة ليس مجرّد شيء يجب الهروب منه، بل ملاحقته، وعلى رأسها حقّ الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره. بالتوازي، تستطيع دول المنطقة أن تضمن حقّ مواطني إسرائيل بالحياة الآمنة، وإيجاد مخرج من الطريق المسدود الّذي تواجهه الأحزاب الفلسطينيّة والساحة السياسة الفلسطينيّة. بكلمات أخرى، وفيما يتعلّق بالاحتياجات الإسرائيليّة الأساسيّة وحواجزها النفسيّة، فإذا عرفت إسرائيل أنّ مواطنيها سوف يعيشون بأمان، فإنّها ستخرج عنصر الخوف من المعادلة – مع العلم أنّه من العقبات السياسيّة والنفسيّة المركزيّة في إسرائيل – وخروج هذا العنصر سوف يفتح آفاقًا جديدة لحلّ سلميّ.
بالتوازي مع هذا تستطيع دول المنطقة أن تعمل شيئًا حقيقيًّا من أجل فلسطين والفلسطينيّين، يمكن لأوّل مرّة بالتاريخ: أن تسمع معاناتهم واحتياجاتهم ومخاوفهم وألّا تمنحهم وعودًا زائفة، بل تساعد في إيجاد حلول موضوعيّة للقضايا المركزيّة. هذا جهد ينبغي أن يمتدّ دوليًّا من الولايات المتّحدة إلى روسيا، وإقليميًّا من الضفّة إلى غزّة، ومن المغرب إلى الأردنّ، ومن مصر إلى المملكة العربيّة السعوديّة، ومن قطر إلى تركيّا. بل ويمكن أن يشمل لبنان وإيران بشكل غير مباشر. لأنّه كلّما زاد حجم وتضخّم هذا الائتلاف، أصبح ذا ثقل أكبر وأكثر احتماليّة للنجاح. فقط تطوّر بهذا الحجم يمكن أن يحجب الخسارة الفادحة في الأرواح، وأن يدفع إلى الأمام الاعتراف والحياة بدلًا من الإبادة.
* بروفسور يونتان مندل (خرّيج جامعة كامبريدج، 2012) - محاضر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في النقب.